ورأى الطالب أن هذا مرتبته فوق مرتبة الفقهاء الذين إنما يعرفون الشرع الظاهر، وفوق مرتبة المحدث الذي غايته أن ينقل ألفاظًا لا يعلم معانيها، وكذلك المقرى والمفسر، ورأى من يعظمه من أهل الكلام، إما موافق لهم وإما خائف منهم، ورأى بحوث المتكلمين معهم في مواضع كثيرة لم يأتوا بتحقيق يبين فساد قولهم، بل تارة يوافقونهم على أصول لهم تكون فاسدة، وتارة يخالفونهم في أمر قالته الفلاسفة ويكون حقًا، مثل من يرى كثيرًا من المتكلمين يخالفهم في أمور طبيعية ورياضية ظانًا أنه ينصر الشرع، ويكون الشرع موافقًا لما اعلم بالعقل، مثل استدارة الأفلاك، فإنه لم يُعْلَمْ بين السلف خِلاَفٌ في أنها مستديرة والآثار بذلك معروفة، والكتاب والسنة قد دلا على ذلك. وكذلك استحالة الأجسام بعضها إلى بعض، هو مما اتفق عليه الفقهاء، كما قال هؤلاء، إلى أمور أخر.
لَكِنْ كثيرٌ من المتكلمين أو أكثرهم لا خبرة لهم بما دل عليه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ بل ينصر مقالات يظنها دين المسلمين، بل إجماع المسلمين، ولا يكون قد قالها أحد من/السلف، بل الثابت عن السلف مخالف لها، فلما وقع بين المتكلمين تقصير وجهل كثير بحقائق العلوم الشرعية، وهم في العقليات تارة يوافقون الفلاسفة على باطلهم، وتارة يخالفونهم في حقهم؛ صارت المناظرات بينهم دولًا. وإن كان المتكلمون أصح مطلقًا في العقليات الإلهية والكلية، كما أنهم أقرب إلى الشرعيات من الفلاسفة؛ فإن الفلاسفة كلامهم في الإلهيات والكليات العقلية كلام قاصر جدًا، وفيه تخليط كثير، وإنما يتكلمون جيدًا في الأمور الحسية الطبيعية وفي كلياتها، فكلامهم فيها في الغالب جيد.


الصفحة التالية
Icon