وأيضًا، فهذه الأماني الباطلة التي تمنوها بقلوبهم وقالوها بألسنتهم. /كقوله تعالى :﴿ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ﴾ [ البقرة : ١١١ ] قد اشتركوا فيها كلهم فلا يخص بالذم الأميون منهم، وليس لكونهم أميين مدخل في الذم بهذه، ولا لنفي العلم بالكتاب مدخل في الذم بهذه، بل الذم بهذه مما يعلم أنها باطل أعظم من ذم من لا يعلم أنها باطل؛ ولهذا لما ذم الله بها عمم ولم يخص، فقال تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ﴾ الآية [ البقرة : ١١١ ].
وأيضًا، فإنه قال :﴿ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾ فدل على أنه ذمهم على نفي العلم، وعلى أنه ليس معهم إلا الظن، وهذا حال الجاهل بمعاني الكتاب لا حال من يعلم أنه يكذب، فظهر أن هذا الصنف ليس هم الذين يقولون بأفواههم الكذب والباطل، ولو أريد ذلك لقيل : لا يقولون إلا أماني، لم يقل : لا يعلمون الكتاب إلا أماني، بل ذلك الصنف هم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون : هو من عند اللّه وما هو من عند اللّه، ويكتبون الكتاب بأيديهم ليشتروا به ثمنا قليلا، فهم يحرفون معاني الكتاب، وهم يحرفون لفظه لمن لم يعرفه، ويكذبون في لفظهم وخطهم.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال :( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذْو القذَّة بالقذة حتى لو دخلوا جحر/ضب لدخلتموه ) قالوا : يا رسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال :( فمن ؟ ). وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال :( لتأخذن أمتى مآخذ الأمم قبلها شبرًا بشبر وذراعا بذراع ) قالوا : يا رسول الله، فارس والروم ؟ قال :( ومن الناس إلا أولئك ).
فهذا دليل على أن ما ذم الله به أهل الكتاب في هذه الآية يكون في هذه الأمة من يشبههم فيه، وهذا حق قد شوهد، قال تعالى :﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [ فصلت : ٥٣ ]، فمن تدبر ما أخبر اللّه به ورسوله رأي أنه قد وقع من ذلك أمور كثيرة، بل أكثر الأمور، ودله ذلك على وقوع الباقي.


الصفحة التالية
Icon