وأما زيارة قبور الأنبياء والصالحين لأجل طلب الحاجات منهم، أو دعائهم والإقسام بهم على الله، أو ظن أن الدعاء أو الصلاة عند قبورهم أفضل منه في المساجد والبيوت، فهذا ضلال وشرك وبدعة باتفاق أئمة المسلمين، ولم يكن أحد من الصحابة يفعل ذلك، ولا كانوا إذا سلموا على النبي ﷺ يقفون يدعون لأنفسهم؛ ولهذا كره ذلك مالك وغيره من العلماء، وقالوا : إنه من البدع التي لم يفعلها السلف، واتفق العلماء الأربعة وغيرهم من السلف على أنه إذا أراد أن يدعو يستقبل القبلة، ولا يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا سلم عليه فأكثرهم قالوا : يستقبل القبر، قاله مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة : بل يستقبل القبلة - أيضًا - ويكون القبر عن يساره، وقيل : بل يستدبر القبلة.
ومما يبين هذا الأصل أن رسول الله ﷺ لما هاجر هو وأبو بكر ذهبا إلى الغار الذي بجبل ثور، ولم يكن على طريقهما/ بالمدينة، فإنه من ناحية اليمن، والمدينة من ناحية الشام، ولكن اختبآ فيه ثلاثًا لينقطع خبرهما عن المشركين، فلا يعرفون أين ذهبا، فإن المشركين كانوا طالبين لهما، وقد بذلوا في كل واحد منهما ديته لمن يأتي به، وكانوا يقصدون منع النبي ﷺ أن يصل إلى أصحابه بالمدينة، وألا يخرج من مكة، بل لما عجزوا عن قتله أرادوا حبسه بمكة، فلو سلك الطريق ابتداء لأدركوه، فأقام بالغار ثلاثًا لأجل ذلك، فلو أراد المسافر من مكة إلى المدينة أن يذهب إلى الغار، ثم يرجع لم يكن ذلك مستحبًا بل مكروهًا. والنبي ﷺ في الهجرة سلك طريق الساحل وهي طويلة، وفيها دورة، وأما في عمره وحجته فكان يسلك الوسط، وهو أقرب إلى مكة، فسلك في الهجرة طريق الساحل؛ لأنها كانت أبعد عن قصد المشركين، فإن الطريق الوسطي كانت أقرب إلى المدينة، فيظنون أنه سلكها، كما كان إذا أراد غزوة وَرَّي بغيرها.