وأيضًا، فكونه يوسوس في صدور الطائفتين صفة توضيح وبيان، وليس وسوسة الجن معروفة عند الناس، وإنما يعرف هذا بخبر، ولا خبر هنا، ثم قد قال :﴿ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ ﴾، فكيف يكون لفظ الناس عامًا للجنة والناس ؟ وكيف يكون قسيم الشيء قسما منه ؟ فهو يجعل الناس قسيم الجن، ويجعل الجن نوعًا من الناس، وهذا كما يقول : أكرم العرب من العجم والعرب، فهل يقول هذا أحد ؟ ! وإذا سماهم اللّه ـ تعالى ـ رجالًا لم يكن في هذا دليل على أنهم يسمون ناسًا، وإن قدر أنه يقال : جاء ناس من الجن فذاك مع التقييد، كما يقال : إنسان من طين، وماء دافق، ولا يلزم من هذا أن يدخلوا في لفظ الناس، وقد قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [ النساء : ١ ].
فالناس كلهم مخلوقون من آدم وحواء مع أنه ـ سبحانه ـ يخاطب الجن والإنس.
والرسول ﷺ مبعوث إلى الجنسين، لكن لفظ الناس لم يتناول الجن، ولكن يقول :﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ ﴾ [ الأنعام : ١٣٠ ].
وكذلك قول الزجاج : إن المعنى ﴿ شَرِّ الْوَسْوَاسِ ﴾ الذي هو الجنة ومن شر الناس فيه ضعف، وإن كان أرجح من الأول؛ لأن شر الجن أعظم من شر الإنس، فكيف يطلق الاستعاذة من جميع الناس ولا يستعيذ إلا من بعض الجن ؟ !
وأيضًا، فالوسواس الخناس إن لم يكن إلا من الجنة فلا حاجة إلى قوله :﴿ مِنَ الْجِنَّةِ ﴾ ومن ﴿ النَّاسِ ﴾ فلماذا يخص الاستعاذة من وسواس الجنة دون وسواس الناس ؟
وأيضًا، فإنه إذا تقدم المعطوف اسمًا كان عطفه على القريب أولى، كما أن عود الضمير إلى الأقرب أولى، إلا إذا كان هناك دليل يقتضى العطف على البعيد، فعطف الناس هنا على الجنة المقرون به أولى من عطفه على الوسواس.