ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى تفاضل أنواع الإيجاب والتحريم وقالوا : إن إيجاب أحد الفعلين قد يكون أبلغ من إيجاب الآخر، وتحريمه أشد من تحريم الآخر، فهذا أعظم إيجابًا، وهذا أعظم تحريمًا. ولكن طائفة من أهل الكلام نازعوا في ذلك ـ كابن عقيل وغيره ـ فقالوا : التفاضل ليس في نفس الإيجاب والتحريم، لكن في متعلق ذلك وهو كثرة الثواب والعقاب. والجمهور يقولون : بل التفاضل في الأمرين والتفاضل في المسببات دليل على التفاضل في الأسباب. وكون أحد الفعلين ثوابه أعظم وعقابه أعظم دليل على أن الأمر به والنهي عنه أوكد، وكون أحد الأمرين والنهيين مخصوصًا بالتوكيد دون الثاني مما لا يستريب فيه عاقل، ولو تساويا من كل وجه لامتنع الاختصاص بتوكيد أو غيره من أسباب الترجيح، فإن التسوية والتفضيل متضادان.
وجمهور أئمة الفقهاء على التفاضل في الإيجاب والتحريم، وإطلاق/ذلك هو قول جماهير المتأخرين من أصحاب الأئمة الأربعة، وهو قول القاضي أبي يعلى وأبي الخطاب والقاضي يعقوب البرزبيني وعبد الرحمن الحلواني وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم. لكن من هؤلاء من يفسر التفاضل بتفاضل الثواب والعقاب ونحو ذلك مما لا ينازع فيه النفاة. والتحقيق : أن نفس المحبة والرضا والبغض والإرادة والكرامة والطلب والاقتضاء ـ ونحو ذلك من المعاني ـ تتفاضل، وتتفاضل الألفاظ الدالة عليها. ونفس حب العباد لربهم يتفاضل، كما قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ ﴾ [ البقرة : ١٦٥ ]، ونفس حب الله لهم يتفاضل أيضا، فإن الخليلين إبراهيم ومحمدًا أحب إليه ممن سواهما. وبعض الأعمال أحب إلى الله من بعض، والقول بأن هذا الفعل أحب إلى من هذا مشهور ومستفيض في الآثار النبوية وكلام خير البرية، كقول بعض الصحابة : لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لفعلناه، فأنزل الله سورة الصف، وهو مشهور ثابت رواه الترمذي وغيره.


الصفحة التالية
Icon