وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف، بأنه الوسواس إلى أخر السورة، ولم يقل من شر وسوسته لتعم الاستعاذة جميع شره، فإن قوله الوسوسة يعم كل شر، ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرًا، وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة فإن القلب يكون فارغًا من الشر فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويشهيه فيصير شهوة ويزينها ويحسنها له فتصير إرادة، ثم لا يزال يمثل ويشهي وينسي ضررها ويطوي عنه سوء عاقبتها، فلا يرى إلا التذاذه بالمعصية فقط وينسي ما وراء ذلك، فتصير الإرادة (٥٤) جازمة فيشتد الحرص من القلب، فلا يزال الشيطان بالعبد يقوده إلى الذنب وينظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة.
فأصلُ كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة فلهذا وصفه بها؛ ليكون الاستعاذة من شرها أهم، وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضًا فمن شره أنه لص سارق لأموال الناس فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله عليه فله فيه حَظًا بالرسقة والخطف وكذلك يبيت في البيت الذي لم يذكر فيه اسم الله فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم ويدل على عوراتهم فيأمر العبد بالمعصية ثم يلقي في قلوب أعدائه يقظة ومنامًا أنه فعل كذا وكذا، ومن هذا أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه - إلا الله - أحدٌ من الناس فيصبح والناس يتحدثون به، وما ذاك إلا لأن (٥٥) الشيطان يجهده في كشف سرّه (٥٦) وفضيحته فيغترّ العبد ويقول هذا ذنب لم يره إلا الله ولم يشرع بأن عدوه ساع في إذاعته، وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة. ومن شره أنه يعقد على رأس العبد إذا نام عقدة (٥٧) تمنعه من اليقظة كما في صحيح البخاري: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد) (٥٨) الحديث، ومن شره أنه يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح (٥٩).


الصفحة التالية
Icon