ثانيا هو تطويع للسان العربي الذي بدأت تدخله العجمة، وتضيع بعض من سماته النطقية واستخلاف المصطلح الأجنبي، واستحواذه على الألسن، حيث أصبح الناطق باللغة العربية لا يمت بصلة إلى الحضارة، والمدنية، وأن النطق باللغات الأجنبية امتياز وتقدم، منطلقين من موقع عقدة نفسية، والانبهار بحضارة الآخر. فمهمة أصحاب الفكر والثقافة، الترويج للمصطلحات القرآنية، واستخدامها في محاوراتهم، ومواعظهم وخطبهم، وقداسة القرآن لا تكمن في كلماته حتى لا نحركها ونستخرجها، بل القداسة تكمن في تأويله.
لذلك لا ضرر من استعمال بعض المصطلحات الواردة في الكتاب والسنة، وقد لا تفهم المصطلحات القرآنية الفهم الدقيق، وعليه قد تستعمل في غير مدلولها أحيانا، فلقد رفض بعض الفقهاء استعمال كلمة الكافرين عند مخاطبة المسيحيين ومحاورتهم، فحمل إنكار ذات الله مع أنهم ليسو بذلك والقرآن العظيم يخاطب بألطف العبارات وهي أهل الكتاب، فأما الموارد التي نعتهم فيها بالكفر، فلم تكن في مورد المخاطبة، بل في تصحيح معتقدهم الذي ينسبون فيه بنوة المسيح إلى الله، والكافرون عادة هم المشركون، وليس أهل الكتاب.
والعقدة المتداولة هي الاندهاش، والانبهار بالآخر على أساس انه الأكثر فهما وامتلاكا للمادة والقوة، وانطلاقا من عقدة نقص، وزعزعة الثقة بالنفس.
وفي عرف المغالطة أن القرآن استنفذ طاقته المعرفية، وفقد كفاءته وصار ينتمي إلى ثقافة الماضي (فالنص له دوال إشارية ودلالية، قد تفقد قدرتها على الإشعاع، ولكنها لا تموت أبدا، إذ تظل لها القدرة على القيام بوظيفة الشاهد التاريخي...)(١)
ومصطلحات القرآن لن تموت ما دام القرآن بين أظهرنا، ولان هذا الدين اختار لبقائه لغة تصلح لكل جيل، ولكل زمن، وذات بعد إنساني، وهي موكلة لخدمة خليفة الله في الأرض.
المصطلح العربي وثقافة التقليد :
(أولاً) المصطلح الفقهي (٢): أعني هنا بالفقهي ما كان في المجال الديني من العلوم، وهذا المصطلح يعاني من جمود مريب. وليس هذا عيبا في الفقه ولا في مصادره، إنما هو نقيصة تسجل في صف الفقهاء المتأخرين خاصة، الذين آثروا الجمود الاجتهادي واكتفوا -كثيرمنهم- بالاتكاء على مناهج ونتائج الرواد السالفين. ومن كان هذا حاله، لاجرم أن تتحجر لديه آلات التعبير، ومنها المصطلح التخصصي. ولعل من دواعي افتقاد التجديد المصطلحي : كثرة المصطلحات الفقهية التراثية وتعدد ساحاتها، حتى إن كل مذهب تميز بمصطلحات لا توجد في غيره، بل لقد ظهر عند بعض العلماء مصطلحات خاصة في بعض من مصنفاتهم (٣)، مثل اصطلاحات ابن حجر العسقلاني في كتابه : بلوغ المرام، وكتابه المطالب العالية. وكذا ابن تيمية الجد في : منتقى الأخبار. وصديق حسن القنوجي في : الحِطَّة في ذكر الصحاح الستة.
فضلا عن الرموز الإحالية كالتي عند السيوطي في (الجامع الكبير )و(الجامع الصغير)، وابن حجر في كتابه (تقريب التهذيب ) وعند الذهبي في (المغني في الضعفاء).
والناظر تجاه عالم التصوف، ومكتوباته ؛ لسوف يذهل من واقع المصطلح الصوفي، لكثرته وغناه، وغموضه، وعمقه، وغرابته؛ وذلك سواء في ساحة التصوف العملي، والتصوف النظري كليهما. فوسط كل من الكثرة والغنى، و الغموض، والعمق، و الغرابة، يقبع المصطلح الصوفي بصفته أغنى المصطلحات الناشئة في اللغة العربية. بل إن الساحة الصوفية كادت أن تخلق لها لغة قائمة بذاتها، لو أن المجال أفسح للحلاج، وابن سبعين، والجيلي، وأمثالهم، لكن كان للفقهاء رأي آخر.
(ثانياً)المصطلح الأدبي النقدي/(٤)
إن المصطلح في هاته الساحة حيوي متجددبعيد عن الاتكاء الرجوعي، أعني أنه غير معتمد على مأثور النقد القديم، ولكن هذا لا يعني أنه متجردعن التبعية، فهو في حقيقة مآله تابع لجهة أخرىغير الأسلاف الأولين. تلك الجهة هي ما يمثلها المشهد النقدي الغربي الأوربي خاصة.
وهذا القول لا يحمل هدما لخصوصية مصطلحنا النقدي العربي الحديث، إنما يحمل لمزاً بريئا ً، لائماًلجانبه، لاسيماللمغرقين في التبعية المصطلحية، فضلاً عن التبعية المنهجية.
- ٢وأثرُ دراسة ألفاظ القرآن في كتب "الأضداد" واضح، ومن هذه المصنفات كتاب أبي الطيب اللغوي، وكتاب قطرب، وكتاب ابن الأنباري. وهي تورد المفردة اللغوية، وتنصُّ على استعمالها في القرآن والحديث والشواهد الفصيحة من الشعر وأقوال العرب؛ وذلك لأنَّ بعض ألفاظ العربية تُنْبئ عن المعنى وضده في الكلمة نفسها. وقد تَصَدَّتْ هذه الدراسات لبحث مدلول اللفظ المفرد وصلته بالسياق، ومدى اختلاف معناه باختلاف تركيبه في الجملة. يقول الدكتور محمد زغلول سلام [٥]: " وكان حافز العلماء في الاجتهاد والبحث القرآنَ؛ ذلك لأنَّ المفسِّرين والعلماء الذين شُغِلوا بدراسة أسلوبه قد اعترضَتْهم بعض العقبات، حين اصطدموا بألفاظٍ قد يُفْهم تكرارها في مناسبات مختلفة في القرآن أنها متضادَّة أو مختلفة في معانيها، وذلك بالقياس إلى الشاهد الشعري، ممَّا دعا بعض الطاعنين ومَنْ يثير الشكوك إلى القول بالتناقض في أسلوب القرآن ".
ويُصَرِّح ابن الأنباري في مقدمة كتابه "الأضداد" بالدافع الرئيس الذي دفعه إلى تأليف كتابه، فهو خدمة تفسير القرآن ومحاولة الدفاع عمَّا وُجِّه إلى لغته وأسلوبه من التناقض والإحالة، ويقول: " هذا كتابُ ذِكْرِ الحروف التي تُوقعها العرب على المعاني المتضادَّة، فيكون الحرف منها مؤدِّيًا عن معنيين مختلفين، ويظنُّ أهل البدع والزيغ والإزراء بالعرب أنَّ ذلك كان منهم نقصًا مِنْ حكمتهم، وقلَّة بلاغتهم " [٦]. وقد عرض ابن الأنباري كثيرًا من الألفاظ التي جاءت في القرآن، وعَدَّها بعض العلماء مِنْ قبله من الأضداد، وهم -مِنْ وجهة نظره- قد أخطؤوا فيها التأويل، ومذهبه في كثير من كلمات الأضداد أنَّ الكلمة لم تُوْضَعْ في أول الأمر للمعنيَيْن المتضادَّين، وإنَّما وُضِعت لأحدهما، وتراه يميل في كتابه إلى قول بعض العلماء: " إذا وقع الحرف على معنيين متضادَّين فالأصل لمعنى واحد، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتساع " [٧]، وقد يكتفي بعرض الرأيين في تفسير الآية كقوله [٨]: " والنِّدُّ يقع على معنيين متضادَّين. يقال: فلانٌ نِدُّ فلان إذا كان ضدَّه، وفلان نِدُّه إذا كان مثلَه. وفسَّر الناس قوله تعالى: ؟فلا تجعلوا لله أَنْدادًا وأنتم تعلمونٌ؟ [البقرة: ٢٢] على جهتين. قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: معناه فلا تجعلوا لله أعدالًا، فالأَعْدال جمع عِدْل، والعِدْل المثل. وقال أبو العباس عن الأثرم عن أبي عبيدة: فلا تجعلوا لله أندادًا أي: أضدادًا ".
أمَّا قطرب فله منهج آخر، وهو التوسُّع في ألفاظ الأضداد وقَبول الكثير منها. ومن أمثلته: "المُفْرَطُ" المُقَدَّم والمؤخَّر، نحو قوله تعالى: ؟لا جَرَم أنَّ لهم النارَ وأنهم مُفْرَطونٌ؟ [النحل: ٦٢]. ويجوز أن يكون أنَّهم مُقَدَّمون إليها جميعًا، ويجوز أنَّهم مُؤَخَّرون مُباعَدون متروكون من الثواب ".
وهكذا ساهم هذا النوع من الخدمة اللغوية في إجلاء معنى كثير من الآيات، وأثار بين علماء العربية والتفسير مناقشات أفادت منها المكتبة القرآنية واللغوية على السواء.
من أخطر أنواع الغلو في الدين الغلو في تأويل المفاهيم، و أوسع أبواب الابتلاء بالغلو الغفلة و الاستعجال. و أخطر ما ابتليت به أمة الإسلام في القرن الخامس عشر الهجري من هذا الغلو، هو انشغال علمائها عن التفقه و التفقيه في علوم اللغة العربية و أساليب البيان العربي الأصيل. و هذه العلوم هي الأدوات التي يستعان بها لفهم و بيان و تبليغ مقاصد القرآن الكريم و أهدافه و غايته، و لذلك فكل تقصير فيها هو تقصير في أداء أمانة البيان و التبليغ عن رب العالمين.
و إن هذا الغلو في التأويل لمقاصد التنزيل الحكيم ليتجلى لكل ذي بصر ثاقب و بصيرة نافذة في إصرار معظم العلماء المسلمين في هذا العصر على إقحام مفهوم التيرورسم terrorisme الغربي الدخيل على مفهوم الإرهاب العربي القرآني الأصيل. و منهم من اضطرب بين المفهومين اضطرابا واضحا لا لبس فيه، حيث أراد أن يبرئ الإسلام من تهمة التيرورسم، فألصقها إلصاقا بالقرآن الكريم. و منهم من حاول التوفيق فوقع في التلفيق و منه تورط في إفساد اللغة نحوا و صرفا و معنى، و حمَّل ( آية الإرهاب ) - )و أعدوا لهم مااستطعتم من قوة و من رباط الخيلترهبون به عدو اللهو عدوكم و آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم( - ما لا تحتمله كي يصرف مفهوم ( الإرهاب ) القرآني بتعسف كبير إلى بني إسرائيل وحدهم !
و إليكم الدليل في مقتطفات من مقال بعنوان [ مفهوم (( الإرهاب )) في القرآن الكريم : مقاربة لدراسة دلالة المصطلح القرآني ]، نشر على صفحات العدد ٤٧٥ - ربيع الأول ١٤٢٦ من مجلة ( الوعي الإسلامي ) التي تصدر في الكويت. ( انظر شكل رقم ١ على الصفحة٣٣ الخاصة بالمقتطفات ). و سأبرهن على صدق ادعائي عن طريق منهج تحليلي مركز لن يبقى معه شك- إن شاء الله تعالى - في صحة ما ذهبت إليه. و من الله العليم الحكيم أستمد العون و أرجو التوفيق و السداد و الصواب في الاجتهاد :
يعلَم أولا من عنوان المقال أنه ( مقاربة لدراسة )، و ذلك معناه أن الكاتب لا يعتبر نتيجة اجتهاده في المسألة حاسمة و لا ملزمة. و هذا تلطف منه و اعتراف باحتمال وقوعه في الخطإ، و ذاك، لعمري، من أدب العلماء، يحسب له لا عليه، سواء أأصاب أم أخطأ.
و لقد تعمدت أن ألحق بمقالي المقتطفات التي أستشهد بها مصورة عن أصلها من المقال المنقود و مرقمة حسب تتابعها في الأصل حرصا مني على الدقة و الأمانة العلمية.
أما الفكرة المحورية التي دار حولها الكاتب دورات متكررة لفظا و معنى دون أن يصل إلى تحديد المفهوم القرآني الصحيح للمصطلح العربي، فهي أنه أراد أن يثبت بأي ثمن أن (( الإرهاب )) من اختصاص بني إسرائيل و أنه لا يختلف في مفهومه العربي القرآني عن مفهوم (( التيرورسم terrorisme )) إلا بكونه يصبح من حق المسلمين أيضا أن يمارسوه بجميع أشكاله و ألوانه المرفوضة التي تمارس عليهم في حالة اضطرارهم إلى الدفاع عن أنفسهم.
و لقد بالغ الكاتب في البحث عن قرينة ينفي بها ( الإرهاب ) عن الإسلام و المسلمين، و ذلك مما اضطره إلى تكرار كثير من ألفاظ مقاله و معانيه؛ و لما لم يجد شيئا لجأ إلى التعسف على لغة القرآن الكريم،


الصفحة التالية
Icon