والإنسان بما كرمه الله تعالى، وجعله سيدا في الأرض، ووهبه لغة التخاطب بمداليلها، وحروفها، وأصواتها ضف إلى ذلك العقل أداة التفكير، والجسد أداة تنفيذ اللغة.
النظرية النونية هي عالمية، لأن النظريات تقوم على فكر موحد والقاعدة التي ارتكزت عليها النظرية النونية، هي الفكر الإسلامي العظيم، ومنهج النظرية دلالته الوحدة والتوحيد، في أصول الكلمات، والأسماء، وجذور المفردات، والمقاطع النغمية المنحدرة عن أصل واحد (وعلم آدم الأسماء كلها)(١٤) فشهادة القرآن أن الإنسان إلى مرجعية موحدة وإلى أصل واحد، وإلى ثقافة أم، تفرعت منها الثقافات الأخرى، وإلى لغة واحدة، هي لغة القرآن، فهذه العبرية لها جذور من العربية وكل لغات العالم تتوحد في جذورها، لكن الواهم الضيق الأفق لا ينظر إ؟ إلى ظاهر العلامات، لا يتعداها إلى المدلول والمعلوم وهو كتاب الله الحكيم، الذي جمع فيه جذور الأديان، والمعتقدات، والمعارف والفنون والآداب.
وحدة المصطلحات في ضوء النظرية النونية :
إن تعدد الألسن واللغات، حسب المناطق والظروف المكانية والزمانية، وتباين التجارب الإنسانية، كما أن لارتباط الأشخاص والاتصال فيما بينهم حدوث تلاقح فكري واستيراد وتوريد الثقافات، يؤدي إلى التثاقف عند ذلك تتشكل اللغات، وتتعدد الألسن، وتنشق وتتشقق، لكن الجوهر يبقى في البيان، فالبحث عن اللغة يكون بواسطة اللغة، والبحث عن البيان يكون بالبيان نفسه. ولو تتبعت مصطلح اللغة في القرآن الكريم تجده دلالة على اللسان (واجعل لي لسان صدق في الآخرين)(١٥)، (وهو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني)(١٦)، (ألم نجعل له عينين، ولسانا وشفتين)(١٧)، (واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي)(١٨) وآيات أخر جميعها تتحد في دلالة واحدة هي البيان.
إن المصطلح غير المصطلح، ظاهرة لغوية متجذرة في اللغة بكل مستوياتها، كما أن افتقاده مزية الإجماع التواضعي، لا تفقده قيمته ولا تؤثر في أهميته نظراً إلى كون افتقاد ذلك الإجماع أمراً طبيعياً جداً، بل هو فطري إلى أعمق حدود الفطرة، التي جبل الناس عليها. واستحضار هذا الواقع يوجب إلينا الالتزام باحترام التفاوتات والتباينات المفهومية الدلالية في السياقات الإجرائية، والأنسق الاستعمالية للمصطلح بعامة. وليس جديداً ما أؤكده هنا من كون كثير من الانشقاقات المذهبية، والصدامات الفكرية، والالتباسات المعرفية إنما خلقت في رحم ضيق الأفق المصطلحي، حين لم تحترم تلكم التباينات المفهومية المترتبة على افتقاد سمة الإجماع على دلالة المصطلح غير المصطلح.
لقد عانت الثقافة العربية الإسلامية كثيراً من خلل في المنهج التفكيري ؛ مما استتبع معايب مؤثرة في المسلك التعبيري، والتنظيري. وهذا واقع ليس في المكنة غمطه، لاسيما عند النظر في مكتوبات وجدالات ومناظرات وخلافات صنّاع تراثنا القديم بالذات.(٧)
ولا أريد لأحد أن يفهم من كلامي أني ممن ينسف القيمة الكبيرة لذلك التراث، ولا أني ممن يقصف الأهمية البالغة التي اكتساها. فقيمة تراثنا العربي الإسلامي وأهميته مما لا يكثر الخلاف فيه ؛ لوضوح أمره، وجلاء حقيقته. لكن أمانة النقد والنصيحة توجب إيضاح المعالم، سيئة كانت أو حسنة، جليلة كانت، أو بئيلة.
- ٨ وكتب "المذكر والمؤنث" رافد من الروافد اللغوية التي خدمت مفردات القرآن الكريم بتصنيفها حسب استعمال العرب لها مذكرةً أو مؤنثة، وقد حفلت هذه المؤلفات بآيات القرآن الكريم؛ لتكون شاهدًا على الحكم الذي ذكرَتْه. وقد عَدَّ الأنباري في كتابه "المذكر والمؤنث" هذا الضرب من التأليف "مِنْ تمام معرفة النحو والإعراب؛ لأن مَنْ ذَكَّر مؤنثًا، أو أنَّث مذكرًا، كان العيب لازمًا له، كلزومه مَنْ نصب مرفوعًا، أو خفض منصوبًا، أو نصب مخفوضًا" [٢٨].
ومن أمثلة ذلك قول الأنباري [٢٩]: "والنفس إذا أردت بها الإنسان بعينه مذكرٌ، وإن كان لفظه لفظ مؤنث، وتجمع ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص، أنشد الفراء:
ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ لقد جار الزمانُ على عيالي
فحمله على معنى ثلاثة أشخاص، والنفس إذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لاغير، وتصغيرها نُفَيْسة، قال تعالى: ؟الذي خلقكم مِنْ نفس واحدةٌ؟ [الأعراف: ١٨٩].
ومن أشهر كتب هذا الضرب من المؤلفات كتاب ابن الأنباري، وكتاب المبرد، وكتاب الفراء. وقد تكون ثمة مفردة قرآنية تحتمل التأنيث والتذكير، ومن ذلك قول الفراء [٣٠]: "السَّبيل يُؤَنَّث ويُذَكَّر، قد جاء بذلك التنزيل، قال تعالى: ؟هذه سبيليٌ؟ [يوسف: ١٠٨]، وقال تعالى: ؟وإن يرَوْا سبيل الغَيِّ يتخذوه سبيلٌ؟ [الأعراف: ١٤٦].
- ٩وثمة مصنفات تتصل بعلوم العربية اتصالًا وثيقًا، وتختص بمواضع "القطع والائتناف في القرآن الكريم"، وهو فنٌّ يساعد على فهم معاني القرآن، وتدبُّر آياته. قال الزركشي [٣١]: "وهو فن جليل، وبه يعرف كيف أداء القرآن، ويترتب على ذلك فوائد كثيرة واستنباطات غزيرة، وبه تتبين معاني الآيات".
والقطع: هو قطع الكلمة عمَّا بعدها وجوبًا أو جوازًا، وحدَّد العلماء للمصطلحات المستعملة مواضع، وهذه المصطلحات هي [٣٢]: التامُّ والحسن والكافي والصالح والجيد والبيان والقبيح، فمواضع القطع والائتناف مرتبطة بالمعنى والحكم الإعرابي. وأشهر كتب هذا الفن كتاب النحاس، إذ طبَّق قواعد العلم على القرآن مرتبة بحسب السور. يقول في المقدمة [٣٣]: فينبغي لقارئ القرآن إذا قرأ أن يتفهم ما يقرؤه، ويشغل قلبه به، ويتفقَّد القطع والائتناف، ويحرص على أن يُفْهم المستمعين في الصلاة وغيرها، وأن يكون وَقْفُه عند كلام مُسْتغن أو شبيه، وأن يكون ابتداؤه حسنًا، ولا يقف على مثل ؟إنما يستجيب الذين يسمعون والموتىٌ؟ [الأنعام: ٣٦] لأنَّ الواقف ههنا قد أشرك بين المستمعين وبين الموتى، والموتى لايسمعون ولايستجيبون، وإنما أخبر عنهم أنهم يُبعثون".
ومن المصنفات التي وصلَتْنا في هذا الباب "إيضاح الوقف والابتداء للأنباري"، و "المكتفى في الوقف والابتدا" لأبي عمرو الداني، و "منار الهدى في بيان الوقف والابتدا" للأشموني.
٧ - أن يلتزم كل المسلمين بجميع فئاتهم من علماء ومؤلفين وكتاب وأدباء ومفكرين وأساتذة ومربين وطلبة وإعلاميين ومثقفين وفنانين.. بالاعتماد على ((المعجم اللغوي العربي الإسلامي)) في كل
أعمالهم. وأن يصبح من أجمل عاداتهم أن يستشيروا المجمع اللغوي العربي الإسلامي في ما قد يعترض طريقهم من أمور لغوية تبرز حاجة طارئة إلى فك رموزها وتوضيح ما غمض من مفاهيمها.
إن مجمعا لغويا عربيا إسلاميا يقوم على أسس هذه القاعدة السباعية لكفيل، إذا ما تضافرت جهود كل القادرين على إنشائه وتعهده بالرعاية الدائمة، بأن يضع حدا لإعصار التسيب اللغوي المفاهيمي الذي لم يسلم من أذاه حتى علماء اللغة أنفسهم في هذا العصر المتسارع نحو الانهيار التام لحضارة إنسانية عظيمة أرسى أسسها المتينة المسلمون في كل مكان؛ ثم تخلوا عنها أو كادوا...
وأرجى ما أرجوه في الختام، هو أن أكون قد ساهمت بهذا العمل الضئيل رغم قلة زادي من العلم، في تمهيد الطريق لنهضة لغوية مفاهيمية سليمة في إطار المشروع الذي أعلنته في مناسبات أخرى تحت إسم: [مشروع العودة الصحيحة إلى القرآن الكريم بتصحيح المفاهيم. ]، كما أرجو أن يبادر كل من أخطأ في حق القرآن الكريم من العلماء خاصة ومن المسلمين عامة، إلى التراجع فورا عن الإصرار على خطإه متى ما تبين له صواب رأي غيره. وكل بني آدم خطاءون، وخير الخطائين التوابون.
***
المغرب الأقصى، تازة، يوم الأحد ٤ جمادى الأولى ١٤٢٦ (١٢ يونيو ٢٠٠٥).
جلول دكداك
شاعر السلام الإسلامي