وقوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ " خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا يعم الأمة عند جمهور العلماء، خلافًا لأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وأصحابهما في قولهم: إنه يكون خطابًا للأمة، إلا ما دل الدليل فيه على الفرق.
وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال:"يا: نداء النفس. وأيُّ: نداء القلب. وها: نداء الروح ". وعلماء النحو يقولون:"يا: نداءُ الغائب البعيد. وأيُّ: نداءُ الحاضر القريب. وها: للتنبيه ".. وشتَّان ما بين القولين !
و" الْمُدَّثِّرُ ": المتدرِّع دِثاره. وأصله: المتدثر فأدغم. يقال: دثرته، فتدثر. والدِّثار: ما يتدثر به من ثوب وغيره.
وقوله تعالى:" قُمْ فَأَنْذِرْ ". أي: قم نذيرًا للبشر. أي: تهيَّأ لذلك.. والإنذار هو أظهر ما في الرسالة، فهو تنبيه للخطر القريب، الذي يترصد الغافلين السادرين في الضلال، وهم لا يشعرون. وواضح من ذلك أن المراد بهذا الإنذار العموم، دون تقييده بمفعول محدد، ويدل عليه قوله تعالى:
" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا "(سبأ: ٢٨)
والفاء في قوله تعالى:" فَأَنْذِرْ "، مع كونها عاطفة للترتيب، فإنها تدل على وجوب إيقاع الإنذار بتبليغ الرسالة، عَقِبَ التهيؤ له مباشرة، دون مهلة. وفي ذلك دليل على أن الإنذار فرض واجب على الرسول صلى الله عليه وسلم، لا بدَّ منه، وهو فرض على الكفاية، فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أنزل إلى الرسول، وأن ينذروا كما أنذر. قال تعالى:
" فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ "(التوبة: ١٢٢)
ثم إن في قوله تعالى:" فَأَنْذِرْ "إشارة إلى قوله تعالى:" وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً "(الإسراء: ١٥)
والتهيؤ للإنذار المعبَّر عنه بصيغة الأمر" قُمْ "لا يكون إلا بفعل ما تلا هذه الآية من توجيهات للرسول صلى الله عليه وسلم. فبعد أن كلفه سبحانه وتعالى بإنذار الغير، شرع سبحانه بتوجيهه في خاصَّة نفسه، فوجهه أولاً إلى توحيد ربه، وتنزيهه عمَّا لا يليق بجلاله وكماله. ووجهه ثانيًا إلى تطهير قلبه ونفسه وخلقه وعمله. ووجهه ثالثًا إلى هجران الشرك وموجبات العذاب. ووجهه رابعًا إلى إنكار ذاته بعدم المَنِّ بما يقدمه من الجهد في سبيل الدعوة، ووجهه خامسًا وأخيرًا إلى الصبر لربه.
أولاً-أما توجيهه- عليه الصلاة والسلام- إلى توحيد ربه، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وكماله فهو المراد بقوله تعالى:" وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ "(المدثر: ٣)
وذلك لأن الرب وحده هو المستحق للتكبير؛ لأنه الأكبر من كل كبير. وهو توجيه يقرِّر الله جل وعلا فيه معنى الربوبية والألوهية، ومعنى التوحيد، والتنزيه من الشريك. وبيان ذلك: أن تكبير الرب جل وعلا يكون بقولنا: الله أكبر. فقولنا: اللههو إثبات لوجوده عز وجل. وقولنا: أكبرهو نفيٌ لأن يكون له شريك؛ لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر، فيما يكون فيه الاشتراك.
وبهذا يظهر لنا أهميَّة هذا التوجيه الإلهي للرسول الكريم، الذي انتدبه ربه لأن يكون نذيرًا للبشر؛ فإن أول ما يجب على المرء معرفته هو معرفة الله تعالى، ثم تنزيهه عما لا يليق بجلاله وكماله، وإثبات ما يليق به جل وعلا.
وقد روي أنه لما نزلت هذه الآية، قال عليه الصلاة والسلام:" الله أكبر". فكبرت معه خديجة، وفرحت، وأيقنا معًا أنه الوحي من الله عز وجل، لا غيره. وفي التعبير عن لفظ الجلالة بعنوان الربوبية، وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم، من اللطف ما لا يخفى !
وقيل: الفاء في قوله تعالى:" فكبِّر "، وفيما بعده، لإفادة معنى الشرط؛ وكأنه قال: ومهما يكن من أمر، فكبر ربك، وطهِّر ثيابك، واهجر الرجز، واصبر لربك. فالفاء على هذا جزائية. ويسميها بعضهم: الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدَّر.
والحقيقة أن هذا تجنٍّ منهم على هذه الفاء؛ لأن ما نسبوه إليها من الدلالة على ذلك الإفصاح المزعوم؛ إنما هو من فعلهم هم، لا من فعل هذه الفاء؛ لأنهم لمَّا رأوها متوسطة بين ما يسمونه عاملاً، ومعموله المقدم عليه- وكان جمهورهم قد أجمع على أن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها- لجئوا في تأويل الآية الكريمة إلى هذا التأويل، الذي لا يتناسب مع بلاغة القرآن، وأسلوبه المعجز في التعبير. فأين قول الله جل وعلا:" وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ "من قولهم في تأويله:
مهما يكن من شيء، فكبر ربك ؟
ولهذا قال بعضهم: إن هذه الفاء دخلت في كلامهم على توهم شرط، فلما لم تكن في جواب شرط محقق، كانت في الحقيقة زائدة، فلم يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها لذلك.
وكلا القولين فاسد، لما فيه من إخلال بنظم الكلام ومعناه. أما إخلاله بالنظم فظاهر. وأما إخلاله بالمعنى فإن الغرض من تقديم قوله تعالى:" وَرَبَّكَ "هو التخصيص، وربطه بما بعده، وهو قوله تعالى:" كَبِّرْ ". ولجعل هذا الأمر واجبَ الحدوث دون تأخير، جيء بهذه الفاء الرابطة، فقال سبحانه:
" وَرَبَّكَ فكَبِّرْ "


الصفحة التالية
Icon