و" سَقَرَ " هي- على ما قيل- الدرك السادس من النار، ومنِع لفظها من التنوين للتأنيث. وقيل: إنه اسم أعجمي. والأول هو الصواب؛ لأن الأعجمي إذا كان على ثلاثة أحرف، انصرف، وإن كان متحرك الأوسط. وأيضًا فإنه اسم عربي مشتق، يقال: سَقَرَته الشمس، إذا أحرقته. والسَّاقُورُ: حديدة تُحْمَى، ويُكْوَى بها الحمار.
وزاد هذا التهديد، وذلك الوعيد تهويلاً تنكير" سَقَرَ "، ثم تكرارها في جملة استفهامية، يزيد من تهويل أمرها؛ وهي قوله تعالى:
" وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ "(المدثر: ٢٧)
يريد: أيُّ شيء أدراك ما سقر؟ أي: لم تبلغ درايتك غاية أمرها وعظم هولها؛ لأنها شيء أعظم وأهول من الإدراك!
وقيل: كل ما في القرآن من قوله تعالى:" وَمَا أَدْرَاكَ "، فقد أدراه، وما فيه من قوله:" وَمَا يُدْريكَ "، فلم يدره؛ كقوله تعالى:" وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا "(الأحزاب: ٦٣)
والدليل على الأول قوله تعالى:" لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ "
فقد أدراه ما سقر؟ ومثله قوله تعالى: " وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ "(القارعة: ٣)
ثم أدراه ما القارعة، فقال سبحانه:
" يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ "(القارعة: ٤)
" وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ "(القارعة: ٥)
ولما كان قوله تعالى:
" مَا سَقَرُ "؟ و" مَا الْقَارِعَةُ " ؟
سؤالاً عن الماهيَّة، لم يجز فيه الجمع بين الاسم، وضميره، كما يفعل ذلك كثير من علماء وكتَّاب اليوم. فلا يقال:
ما هي سقر ؟ وما هي القارعة ؟ وإنما يقال كما قال الله تعالى:
" مَا سَقَرُ " ؟ و" مَا الْقَارِعَةُ " ؟
أو يقال: ما هي ؟ إذا تقدم ذكر لها في الكلام، فيقال:
سقرٌ ما هي ؟ والقارعة ما هي ؟ كما قال تعالى:
" فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ "(القارعة: ٩- ١٠)
فتأمل ذلك في القرآن، تجده على ما ذكرت، إن شاء الله !
ثم عقَّب الله تعالى على هذا تجهيل سقر، وتهويل أمرها بذكر شيء من صفتها أشد هولاً وأعظم، جوابًا عن السؤال السابق:
" وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ "(المدثر: ٢٧)، فقال سبحانه:
" لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ "(المدثر: ٢٨)
أي: لا تبقي شيئًا فيها إلا أهلكته، وإذا هلك، لم تذره هالكًا حتى يعاد. أو لا تبقي على شيء، ولا تدعه من الهلاك، حتى تهلكه. فكل شيء يطرح فيها هالك لا محالة، وكأنها تبلعه بلعًا، وتمحوه محوًا.
وللدلالة على هذا المعنى جيء بـ" لَا " مكررة بعد الواو العاطفة؛ لأنه لو قيل: لا تبقي وتذر، احتمل وقوع النفي على أحد الفعلين، دون الآخر.
ثم هي بعد ذلك:" لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ "(المدثر: ٢٩)
أي: مغيِّرة لهم، أو محرقة، بلغة قريش. يقال: لاحته الشمس، ولوَّحته، إذا غيرته. ويقال: لوحَّت الشيءَ بالنار: أحميته بها. وقال ابن عباس- رضي الله عنهما- وجمهور العلماء: معناه: مغيِّرة للبشرات، ومحرقة للجلود، مسودة لها. فالبشر- على هذا- جمع بشرة.
وقال الحسن وابن كيسان:" لَوَّاحَةٌ " بناء مبالغة من لاح يلوح، إذا ظهر. فالمعنى: أنها تظهر للناس- وهم البشر- من مسيرة خمسمائة عام؛ وذلك لعظمها وهولها وزفيرها. وقرىء:" لَوَّاحَةً "، بالنصب على الاختصاص، للتهويل.
ثم إن:" عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ "(المدثر: ٣٠)ملكًا هم خزنة جهنم، المحيطون بها، المدبرون لأمرها، القائمون على تعذيب أهلها، الذين إليهم جماع أمر زبانيتها، باتفاق العلماء جميعهم.
وهكذا تتلاحق الآيات سريعة الجريان، منوعة الفواصل والقوافي، يتئد إيقاعها أحيانًا، ويجري لاهثًا أحيانًا، وبخاصة عند تصوير المشهدين الأخيرين: مشهد هذا المكذب، وهو يفكر، ويقدر، ويعبس، ويبسر.. ومشهد سقر، التي لا تبقي ولا تذر، ملوحة للبشر!
وواضح من ذلك كله أن الغرض من نزول هذه السورة الكريمة هو تكليف محمد ﷺ بأن يكون نذيرًا للبشر من عذاب الله تعالى. والإنذار يحتاج إلى دليل تقام به الحجة. والدليل- هنا- هو المعجزة. والمعجزة في قوله تعالى:
" عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ "(المدثر: ٣٠)
وروي أنه لما نزلت هذه الآية، قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم! أسمع ابنَ أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهر! أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ؟ فقال أبو الأشدِّ بن أسيد بن كلدة الجُمَحِيِّ، وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر، فاكفوني أنتم اثنين. فأنزل الله تعالى قوله:
" وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً "(المدثر: ٣١)
وأصحاب النار هم التسعة عشر ملكًا. والجمهور على أن المراد بهم النقباء، الذين إليهم جماع زبانيتها- كما تقدم- وإلا فقد جاء:” يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها“.


الصفحة التالية
Icon