" جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ "(فاطر: ٢٧)
فهي مختلفة الألوان بحجارتها ونبتها، وكذلك الصوف مختلفة ألوانه. فهي تشبهه من هذا الوجه، ثم هي تشبهه من وجه آخر، وهو أنها إذا بسَّت، طيِّرت في الجو كما يتطاير الصوف. قال الحسن رضي الله عنه: تسير الجبال مع الرياح، ثم تنهدُّ، ثم تصير كالعهن، ثم تنسف، فتصير هباء.
وإعادة لفظ الكون مع حرف العطف " تَكُونُ، وَتَكُونُ "، للإِشارة إلى اختلاف الكونين؛ فإن أولهما كونُ إيجاد، والثاني كونُ اضمحلال، وكلاهما علامة على زوال عالم، وظهور عالم آخر. وقيل: كرَّر ذلك؛ لأن التكرير في مثل هذا المقام أبلغ في التحذير.
وقال تعالى هنا:" وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ "( ٣ )، وقال في موضع آخر:
" وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ " (المعارج: ٨- ٩)
فأتى بالعهن موصوفًا بالنفش في الآية الأولى، وأتى به غير موصوف في الآية الثانية، فما سر البيان في ذلك ؟ ويجاب عنه بأن الغرض من هذا التشبيه في سورة القارعة هو غيره في سورة المعارج، وبيان ذلك:
أن القارعة- كما أسلفنا- هي من القرع، وهو ضرب جسم بآخر بشدة، لها صوت، فناسب أن يذكر معها من أحوالها في ذلك اليوم المهول ما يوهِن قوى الإنسان إلى ضعف الفراش المبثوث، ويفكك ترابط الجبال وتماسكها إلى هباء العهن المنفوش. فشبَّه تعالى أحوال الناس في ذلك اليوم في كثرتهم وحيرتهم واضطرابهم وانتشارهم في كل جهة بالفراش المبثوث، ثم شبَّه الجبال في اختلاف ألوانها وتفكك أجزائها وتطايرها هباء في الجو بالصوف المنفوش، فناسب بين المشبَّه، والمشبَّه به من جهة، ثم ناسب بين التشبيه في الصورة الثانية، والتشبيه في الصورة الأولى، فقال سبحانه:
" يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ "(٤- ٥)
أما في آية المعارج فقد ذكر تعالى من أحوال ذلك اليوم، الذي وصفه بقوله:" فِيْ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ "(المعارج: ٤)
ما يحيل بناء السماء ولونها، إلى صورة المهل المذاب ولونه، ويحيل تماسك الجبال وثقلها وألوانها، إلى وهن العهن الخفيف وألوانه، فشبَّه السماء في ذلك اليوم بالمهل، وشبَّه الجبال بالعهن، فناسب بين المشبَّه والمشبَّه به من جهة، ثم ناسب بين التشبيه في الصورة الثانية، والتشبيه في الصورة الأولى؛ وذلك قوله تعالى:" يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ "(المعارج: ٨- ٩)
ووجه التشبيه بين السماء، والمهل: أن السماء تذاب في ذلك اليوم، وتصير كالفضة المذابة؛ كما قال الحسن، رضي الله عنه. وقيل: المهل: ما أذيب من النحاس والرصاص، وما أشبه ذلك. وقال غير واحد: المهل ما أذيب على مهل من الفلزات. والمراد يوم تكون السماء واهية.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قوله:”إن السماء الآن خضراء، وإنها تحول يوم القيامة لونًا آخر إلى الحمرة “.
وسئل ابن مسعود- رضي الله عنه- عن قوله تعالى:
" كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ "(الكهف: ٢٩)
فدعا بفضة، فأذابها، فجعلت تميع، وتلوَّن، فقال: هذا من أشبه ما أنتم راءون بالمهل “.
قال الأزهري:”ومثله قوله:
" فََكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ "(الرحمن: ٣٧)
قال أبو إسحق: كالدهان. أي تتلون؛ كما يتلون الدهان المختلفة، ودليل ذلك قوله تعالى:
" يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ "؛ كالزيت، الذي قد أغلي “.
وقال ابن الأنباري:”تبدل السماوات بطيِّها، وجعلها مرة كالمهل، ومرة وردة كالدهان.. وعن مجاهد- رضي الله عنه- تكون الأرض كالفضة، والسماوات كذلك.
وقال الشيخ ابن تيميَّة:”إن السموات، وإن طويت وكانت كالمهل واستحالت عن صورتها، فإن ذلك لا يوجب عدمها، وفسادها، بل أصلها باق بتحويلها من حال إلى حال؛ كما قال تعالى:
" يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ "(إبراهيم: ٤٨)
وإذا بدلت، فإنه لا يزال سماء دائمة، وأرض دائمة، والله أعلم “!
وعن ابن مسعود، رضي الله عنه:”تبدل الأرض أرضًا بيضاءَ؛ كأنها سبيكة بيضاء، لم يسفك فيها دمٌ حرامٌ، ولم يعمَل فيها خطيئةٌ “.
ووجه التشبيه بين الجبال، والعهن: أن الجبال في ثقلها وتماسك أجزائها واختلاف ألوانها، تصير في ذلك اليوم واهية خفيفة مفككة الأجزاء تتلوَّن بألوان مختلفة؛ كالعهن في ضعفه وخفته وتفرق أجزائه واختلاف ألوانه. وليس المراد- هنا- تطاير أجزائها في الجو، كما في القارعة؛ ولهذا أطلق لفظ العهن هنا دون قيد، وقيد هناك بالوصف.
ثالثًا- ولما وصف الله تعالى في الآيات السابقة حال يوم القيامة، عقَّب على ذلك بقوله:
" فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ "(٦- ١١)
فقسم سبحانه الناس في هذا اليوم إلى قسمين:
أحدهما:" مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ". والثاني:" مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ "


الصفحة التالية
Icon