وافتتاح هذا الخطاب بصيغة الأمر" قُلْ "للاهتمام به، وهو تنويهٌ بشرف هذا القرآن العظيم، وامتنانٌ على الذين آمنوا به؛ إذ كان لهم شفاء ورحمة، وإثباتُ عجز الذين أعرضوا عنه من الكفار والمشركين والملحدين عن الإتيان بمثله.
واللام في قوله تعالى:" لَئِنِ "هي الموطِّئة للقسم، دخلت على الشرط. والمعنى: قل: والله ! :" اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ "
ومعنى اجتماع الإنس والجن: اتفاقهم، واتحاد آرائهم. أي: لو تواردت عقولهم على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يؤتون بمثله، ولو تظاهروا على ذلك.
وقدم سبحانه الإنس على الجن؛ لأنهم هم المعنيون بهذا الخطاب؛ ولأنهم كانوا يزعمون أن القرآن الكريم تنزلت به الشياطين على محمد صلى الله عليه وسلم، فردَّ عليهم سبحانه وتعالى بقوله:
" وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ "(الشعراء: ٢١٠- ٢١٢)
وكانوا قبل نزول القرآن يسترقون السمع، فيلقون من الجزاء ما يلقون، وقد أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله:
" وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ *وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ *إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ "(الحجر: ١٦- ١٨)
وحكي عنهم قولهم:
" وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا *وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا "(الجن: ٨-٩)
ثم عزلوا بعد ذلك عن السمع كما نصَّ على ذلك قوله تعالى:
" إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ "(الشعراء: ٢١٢)
وقوله تعالى:" لَا يَأْتُونَ بمثله " جوابٌ للقسم، مغنٍ عن جواب الشرط. وقد جاء منفيًا بـ" لَا "؛ كما في قوله تعالى:
" لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ "(الحشر: ١٢)
ومن حق هذا الجواب أن يكون منفيًّا بـ" مَا "، التي يحسُن معها دخول اللام عليه، فيقال: لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لما أتوا؛ كما في قال ابن مالك الأرْحَبي في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم:
لعَمْري لئن مات النبي محمد **لما مات يا ابن القيل رب محمد
أو يؤتَ بـ" مَا " دون اللام؛ كما قال تعالى في آية أخرى:
" لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ "(المائدة: ٢٨)
هذا وجه الكلام؛ ولكنْ عُدِلَ عنه إلى قوله تعالى:" لَا يَأْتُونَ "؛ لأن" مَا " تختص بنفي الحال، ولا تدل على نفي الجنس إلا بوجود قرينة لفظية، وهي دخول " مِنْ " على منفيِّها؛ كما في قوله تعالى:"مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ "(المائدة: ١٩)
"وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا "(الأنعام: ٥٩)
أما " لَا " فهي مختصَّة بنفي ما كان مستقبلاً، وقد ينفى بها الحال، وتدل على نفي جنس ما بعدها نفيًا شاملاً مستغرقًا لكل جزء من أجزاء الزمن في الحال والمستقبل، مع طول النفي وامتداده إلى ما يشاء الله تبارك وتعالى. فأفاد النفيُ بها أن الإتيان بمثل هذا القرآن، غير ممكن أبدًا على مرِّ الزمن، وأنه فوق طاقة الخلق من الإنس والجن.
ومن هنا كانت هذه الآية الكريمة مفحمة للكفار ولغيرهم، وللعالم كله في التحدي بإثبات عجزهم عن الإتيان بمثل هذا القرآن العظيم إلى يوم القيامة، وأنهم لا يقدرون على ذلك، مهما حاولوا.
ثانيًا- والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما المراد بهذه المِثلية، التي تُعجِز الثقلين مجتمعين عن الإتيان بها، رغم تظاهرهما وتعاونهما على ذلك ؟
وقبل الإجابة عن ذلك لا بدَّ من الإشارة إلى الأمور الآتية، والوقوف عندها:
الأمر الأول: اتفقت كلمة العلماء على أن المثل في قوله تعالى:
" أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ "
هو مثل مقدَّر مفروض، لا يمكن للعقل أن يتصوَّره؛ لأن الآية ابتدأت عندهم بافتراض اجتماع الإنس والجن. وهذا الافتراض- كما قال بعضهم- لا يتصور عقلاً، ممَّا يعني: أن نتيجة هذا الافتراض- وهو المجيء بمثل هذا القرآن- لا يتصور عقلاً؛ لأن الكلام مسوق مساق التعجيز.
ثم اختلفوا بعد ذلك في تحديد المتحدَّى بهذا المِثْل للقرآن، فقال بعضهم: التحدي إنما وقع للإنس دون الجن؛ لأنهم ليسوا من أهل اللسان العربي، الذي جاء القرآن على أساليبه؛ وإنما ذكروا مع الإنس، تعظيمًا لإعجاز القرآن؛ لأن للهيئة الاجتماعية من القوة ما ليس للأفراد. فإذا فُرض اجتماع الثقلين فيه، وظاهر بعضهم بعضًا، وعجزوا عن المعارضة، كان الفريق الواحد أعجز.
وقال بعضهم الآخر: بل وقع للجن أيضًا، والملائكةُ منويُّون في الآية؛ لأنهم لا يقدرون أيضًا على الإتيان بمثل القرآن. وإنما اقتصر في الآية على ذكر الإنس والجن؛ لأن محمدًا عليه الصلاة والسلام كان مبعوثا إلى الثقلين، دون الملائكة.