ويدل على أنه الكتاب، الذي بأيدي الملائكة قوله:" لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ". فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسُّونه. وهذا هو الصحيح في معنى الآية “.
وأضاف ابن قيِّم الجوزيَّة قائلاً:”ومن المفسرين من قال: إن المراد به أن المصحف لا يمسُّه إلا طاهر، والأول أرجح لوجوه:
أحدها: أن الآية سيقت تنزيهًا للقرآن أن تنزل به الشياطين، وأن محله لا يصل إليه، فلا يمسُّه إلا المطهرون، فيستحيل على أخابث خلق الله وأنجسهم أن يصلوا إليه، أو يمسُّوه؛ كما قال تعالى:
" وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ "(الشعراء: ٢١٠- ٢١٢)
فنفى الفعل، وتأتِّيه منهم، وقدرتهم عليه. فما فعلوا ذلك، ولا يليق بهم، ولا يقدرون عليه؛ فإن الفعل قد ينتفي عمَّن يحسُن منه، وقد يليق بمن لا يقدر عليه، فنفى عنهم الأمور الثلاثة.
وكذلك قوله تعالى في سورة عبس:"في صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرَامٍ بَرَرَةٍ "(عبس: ١٣- ١٦)
فوصف محلَّه بهذه الصفات بيانًا أن الشيطان لا يمكنه أن يتنزل به. وتقرير هذا المعنى أهم وأجمل وأنفع من بيان كون المصحف، لا يمسُّه إلا طاهر.
الوجه الثاني: أن السورة مكية، والاعتناء في السور المكية؛ إنما هو بأصول الدين من تقرير التوحيد والمعاد والنبوة. وأما تقرير الأحكام والشرائع فمظنة السور المدنية.
الوجه الثالث: أن القرآن لم يكن في مصحف عند نزول هذه الآية، ولا في حياة رسول الله؛ وإنما جمع في المصحف في خلافة أبي بكر. وهذا، وإن جاز أن يكون اعتبار ما يأتي، فالظاهر أنه إخبار بالواقع حال الإخبار.
الوجه الرابع: وهو قوله تعالى:" فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ". والمكنون: المصون المستور عن الأعين، الذي لا تناله أيدي البشر؛ كما قال تعالى:"كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ "(الصافات: ٤٩)
وهكذا قال السلف. قال الكلبي: مكنون من الشياطين. وقال مقاتل: مستور. وقال مجاهد: لا يصيبه تراب ولا غبار. وقال أبو إسحاق: مصون في السماء.
الوجه الخامس: أن وصفه بكونه مكنونًا، نظير وصفه بكونه محفوظًا. فقوله تعالى:" إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ"؛ كقوله تعالى:" بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ".
الوجه السادس: أن هذا أبلغ في الرد على المكذبين، وأبلغ في تعظيم القرآن من كون المصحف، لا يمسَّه محدث.
الوجه السابع: قوله تعالى:" لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ "، بالرفع، فهذا خبر لفظًا ومعنى. ولو كان نهيًا، لكان مفتوحًا. ومن حمل الآية على النهي، احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهي. والأصل في الخبر، والنهي حملُ كلٍّ منهما على حقيقته. وليس- ههنا- موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهي.
الوجه الثامن: أنه قال:" إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ "، ولم يقل:" إِلَّا المُتَطَهِّرُونَ ". ولو أراد به منع المحدث من مسِّه، لقال: إلا المتطهرون؛ كما قال تعالى:
"ِإنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ"(البقرة: ٢٢٢)
وفي الحديث:« اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين».
فالمتطهِّر فاعل التطهير. والمطهَّر الذي طهَّره غيرُه. فالمتوضئ متطهِّر، والملائكة مطهَّرون.
الوجه التاسع: أنه لو أريد به المصحف، الذي بأيدينا، لم يكن في الإخبار عن كونه مكنونًا كبيرُ فائدةٍ؛ إذ مجرد كون الكلام مكنونًا في كتاب، لا يستلزم ثبوته، فكيف يمدح القرآن بكونه مكنونًا في كتاب ؟ وهذا أمر مشترك، والآية إنما سيقت لبيان مدحه وتشريفه، وما اختص به من الخصائص، التي تدل على أنه منزل من عند الله، وأنه محفوظ مضمون، لا يصل إليه شيطان بوجه مَّا، ولا يمسُّ محلَّه إلا المطهَّرون، وهم السفرة الكرام البررة.
الوجه العاشر: ما رواه سعيد بن منصور في سننه: حدثنا أبو الأحوص، حدثنا عاصم الأحول عن أنس بن مالك في قوله:" لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ "، قال: المطهرون: الملائكة. وهذا عند طائفة من أهل الحديث في حكم المرفوع.
وقال حرب في مسائله: سمعت إسحق في قوله:" لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " قال: النسخة التي في السماء، لا يمسها إلا المطهرون. قال: الملائكة.
وأنت إذا تأملت قوله تعالى:" إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ "
وجدت الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذا القرآن جاء من عند الله، وأن الذي جاء به روح مطهر، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل، ووجدت الآية أخت قوله تعالى:" وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ* وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ* إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ "
وثبت لك أن القرآن الموصوف بقوله تعالى:" وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ "، وقوله تعالى:" وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ "


الصفحة التالية
Icon