وقد تحدث البلاغيون القدامى عن الفعل الذي لم يسم فاعله ونظروا في دلالته ومواقعه المتباينة، وهي وإن كانت نظرات إشارية تعد بمثابة اللمحة الخاطفة لا التحليلية العميقة، إلا أنها تدل علي ذوقهم البلاغي وحسهم المرهف بمواقع الكلام وأدوات التعبير، وإذا " كانت التيارات الجديدة قد شغلت نفسها بتحليل أدوات اللغة بكل طاقاتها التأثيرية والاٍقناعية، وبكل مهامها الانفعالية، فاٍن المهمة نفسها قد شغلت البلاغة القديمة، وقد أفاد منها - بلا شك - الخطاب الأدبي التراثي، وسوف يفيد - بلا شك أيضا - الخطاب الأدبي الحديث"[٧].
وإذا كانت نظرة النحاة والبلاغيين قد اشتركت في تعيين أغراض عدم تسمية الفاعل، من العلم به أوتعظيمه أوصيانته عن الابتذال والامتهان أو مناسبة الفواصل أو مناسبة ما تقدم، أوكما ذكر السيوطي من أغراض للاختصار أو التنبيه علي أن الزمان يتقاصر علي الإتيان بالمحذوف أوأن الاشتغال بذكره يفضي إلي تفويت المهم. [٨]
فاٍنه ينبغي النظر إلي الروح السارية أوالحياة النابضة الآخذة بلب السياق؛ لأن السياق قد يحمل أكثر من غرض لعدم تسمية الفاعل، أويبرز غرضًا أساسيًا أو جوهريًّا حاملاً معه من الأغراض ما يتطلبه المعنى ويقتضيه المقام.
وقد نظر الزركشي إلي بناء الفعل طبع للمجهول في سياقه نظرة التناسب مع ما تقدم، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ﴾[التوبة٨٦ - ٨٧]
فصدر الآية الكريمة جاء بالبناء للمفعول أُنْزِلَتْ سُورَةٌ، فتناسق الختام مع البدء وجاء الفعل طبع مبنيا -أيضًا - للمجهول، وهذا بخلاف قوله تعالى ما بعدها: وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ، فاٍنه لم يقع قبلها ما يقتضي البناء، فجاءت على الأصل. [٩]
فهذا الغرض وإن كان كذلك، إلا أنه ينبغي النظر إليه من ناحية أخرى، حيث استخدم هذا الفعل في مقام الذم وقدح الكافرين فقط، ولم يأت هذا الفعل مبنيا للمجهول إلا في موضعين فقط، وقد تمت الإشارة إلي ذلك في موضعها من البحث.
وقد وقف ابن الأثير مع هذه الروح السارية في النص، عندما وقف مع الالتفات في بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أوتكلمه في قوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، بعد أَنْعَمْتَ، ولم يقل غير الذين غضبت عليهم؛ لأن اسم المفعول مشتق من الفعل المبني للمجهول،. فاعتبر ذلك عطفًا علي الأول؛ لأن الأول موضع التقرب من الله بذكر نعمه، فلما صار إلي ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب، فأسند النعمة إليه لفظا، وزَوَي عنه لفظ الغضب تحننا ولطفا ".[١٠]
هذا وإن الفاعل عندما يحذف من الجملة فإنما ينوب عنه " في رَفْعِه وعُمْديته ووجوب التأخير عن فعله، واستحقاقه للاتصال به، وتأنيث الفعل؛ لتأنيثه واحدٌ من أربعة: الأول: المفعول به نحو: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [هود٤٤].
والثاني المجرور نحو: ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف١٤٩]، والثالث: مصدر مختص، نحو: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾[الحاقة١٣]، والرابع: ظرف متصرف مختص، نحو: صيم رمضان، وجُلس أمام الأمير.[١١]
البِنَاءُ لِلْمَجْهُولِ وَالتَّصْوِيرِ
يقصد بالتصوير هنا ما يقوم به الفعل المبنى للمجهول من تصوير لأحداث المشهد الغيبي الذى غابت دقائقه عن المتلقى أو خفى عن ذهنه وخياله.
أَوَّلاً: المشَاهِدُ الغَيْبِيَّةُ
تعمل الأساليب القرآنية في المشاهد الغيبية عملا حيا يساعد نفس الملتقي علي تلقي كينونة المشهد بمعناه العميق؛ ليتدارك خياله ما قصرت عنه حواسه المادية، فتتغاير الأفعال والجمل بتغاير الأحداث والوقائع والأشخاص، فنجد فعلا بعينه يدور في المواضع الكثيرة مبينا للمعلوم ليقرر الحقيقة دامغة واقعة شاخصة للعيان، لا جدال فيها ولا مراء، وذلك كالفعل رزق مثلا الذي جاء معلوما في كل المواضع القرآنية إلا أربعة مواضع، كقوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [النمل ٦٤].
وكقوله تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [السجدة ١٦].