ويتضح لك ذلك، إذا علمت أن المراد هنا: تشبيه مثل الحياة الدنيا بنبات الأرض في حقيقته، مع ما يصحب هذه الحقيقة من أحوال، من اختلاط بالماء، ثم نماء واخضرار وزهوٍّ، ثم ذبول وهلاك.. ولهذا لم يؤتَ بلفظ المَثل، عقِب كاف التشبيه.
وكان حق كاف التشبيه أن تدخل على النبات، فيقال:"إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. كَنَبَاتِ الأرْضِ اخْتلَطَ بِمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ".
لأن المشبه به- في الحقيقة- هو النبات، لا الماء. والأصل في أداة التشبيه أن يليها المشبه به؛ ولكن خولِف هذا النظم، لفائدة جليلة، وسر بديع؛ وهو تقديم ما هو أهم. والأهم- هنا- هو الماء، بدليل أن الماء من أهم العناصر، التي تدخل في تكوين النبات؛ بل النبات لا يكون نباتًا إلا بوجود الماء فيه؛ ولهذا قدم- هنا- على النبات عناية بذكره واعتمادًا على أن الأفهام الصحيحة تستخرج ما بين المشبه، والمشبه به من المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه وأتمه.. فتأمل ذلك!
مثل الحياة الدنيا في القرآن الكريم كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ َاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ
أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ
وفي قوله تعالى:" فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ " إعجاز آخر من إعجاز القرآن، وسرٌّ بديع من أسراره. فالنظم القرآني لهذه العبارة الموجزة، جعل اختلاط نبات الأرض بماء السماء، ولم يجعل اختلاط الماء بالنبات. لم يقل سبحانه:﴿ فاختلط بنبات الأرض ﴾، على ما يقتضيه مفهوم النظر الإنساني لهذه الظاهرة؛ لأن الماء هو الذي يختلط بنبات الأرض، ويسري في كيانه، فيبعث فيه الحياة، ويخرجه من عالم الموات.. هكذا نرى نحن البشر، وهكذا نقدر؛ ولكن عين الله المقدِّرة ترى ما لا نرى، وتعلم ما لا نعلم.
وقبل أن نكشف عن سِرِّ النظم في هذه العبارة الموجزة، لا بدَّ أن نعلم أن المراد بالنبات- هنا- هو: البذر، أو الحب، لا النبات حين يكون نباتًا؛ فإنه في تلك الحال لا يكون مجرَّد نباتٍ؛ بل هو الماء، والنبات معًا، وأن لقاءً قد تمَّ بين الماء، وبذرة النبات؛ حتى أصبح نباتًا. وهذه البذرة ليست شيئًا ميتًا- كما يبدو لنا- وإنما هي كائن حيٌّ، يحتفظ في كيانه بكل عناصر الحياة، التي تنتظر مَنْ يثيرها، ويدفع بها إلى الظهور؛ وذلك لا يكون إلا بأمرين:
أولهما: غرس الحبة في الأرض. والثاني: وصول الماء إليها، وتحول تراب الأرض إلى طين. هنا تبدأ الحياة الكامنة في الحبة، فتتحرك، وتأخذ إلى الماء المختلط بالتراب طريقها، فتجذبه إليها، وتأخذ منه ما يروِّي ظمأها إلى الحياة، وإلى الإعلان عن وجودها، وإظهار آيات الخالق، التي ائتمنها عليها.
فالحبة- إذًا- هي الطالبة للحياة، والمهيأة لها، والمتشوقة إليها، وما الماء والتراب والطين إلا عناصرٌ مساعدة.. ومن هنا جاء النظم القرآني لهذه العبارة مسنِدًا الاختلاط بالماء إلى النبات. ولو جاء على عكس ذلك، لكان خطأً علميًّا، يناقض ما كشف عنه العلم اليوم.
ومن هنا ندرك سر وقوف نافع في قراءته على قوله تعالى:" فَاخْتَلَطَ ". ثم ابتداؤه بقوله تعالى:" بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ". أي: بالماء نبات الأرض. وهذا يؤكد أن الماء المنزل من السماء يختلط بتراب الأرض، ويذيب ما فيه من عناصر غذائية بعد أن يحوله إلى طين، ثم يختلط النبات- أي: البذر- بالماء من خلال اختلاطه بالطين، الذي يمده بالماء والغذاء.. ومن هنا يأخذ البذر طريقه في النمو، ويتحول إلى نبات، يكون الماء أحد عنصريه، فيخضر بعد ذلك، ويزهو، ويحسن. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك كله بقوله:
" أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ "(عبس: ٢٥- ٣٢).
ثم ماذا بعد ذلك؟ يأتيه أمر الله تعالى بالهلاك، فيجعله حصيدًا كأَن لم يَغْنَ بالأمس.
هكذا تبدأ رحلة حياة النبات، وهكذا تنتهي.. كذلك متاع الحياة الدنيا، مآله إلى الزوال، والإنسان مآله إلى الموت، و" كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ " (القصص: ٨٨)، سبحانه وتعالى!
وقوله تعالى:" حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ " جُعِلت فيه الأرض آخذة زخرفها، على التمثيل بالعروس، إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتستها، وتزينت بغيرها من ألوان الزيَن.
وأصل" ازَّيَّنَتْ ": تزيَّنت، أدغمت التاء في الزاي، وجيء بألف الوصل؛ لأن الحرف المدغم مقام حرفين: الأول منهما ساكن، والساكن لا يبتدأ به. وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب رضي الله عنهما:" تَزَيَّنَتْ "، على الأصل.


الصفحة التالية
Icon