وقوله تعالى:" أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب "بالتنكير، ينبىء عن سراب ضئيل تافه، بخلاف ما لو جيء به معرَّفًا. ووراء ذلك ما وراءه من تعلق نفس الظمآن بالأمل، ولو كان ضعيفًا تافهًا. واستعمال الكاف، دون غيرها من أدوات التشبيه، يجعل هذه الأعمال- في حقيقتها وصورتها- في مرتبة أدنى من مرتبة السراب- في حقيقته وصورته- ووراء ذلك ما وراءه من إزراء لها، واستخفاف بأصحابها؛ ونحو ذلك تشبيه أعمال مثل الذين كفروا بربهم بالرماد في قوله تعالى:
" مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ "(إبراهيم ١٨).
وصورة السراب، الذي يحسبه الظمآن ماء، وإن كانت تشترك في الموضع مع صورة الرماد، الذي تعصف به الريح في المثل السابق، إلا أنها تختلف عنها اختلافًا دقيقًا ومهمًّا؛ وذلك في المغزى، ولب الغرض، وبيان ذلك:
أن صورة السراب تهتم بتصوير اللهفة، والحاجة الماسَّة إلى الانتفاع بهذه الأعمال، ثم الخيبة والمفاجأة بخديعة الأمل، وأنه ما كان إلا وهمًا؛ ولهذا كانت عناصرها: الظمآن، والسراب. وهذان اللفظان هما- كما ترى- لهما دلالة قوية على هذا المغزى؛ بل إن لفظ السراب يكاد يكون رمزًا حيَّا في هذا الباب.
أما صورة الرماد فإنها تهتم ببيان عدم النفع لهذه الأعمال، وأنها تصير بددًا، من غير أن تركز على معنى اللهفة والتعلق، الذي ركزت عليه صورة السراب؛ ولهذا كانت عناصرها: الرماد، والريح، واليوم العاصف. وكلها- كما ترى- تؤكد معنى الضياع، الذي يعقبه الهلاك، إضافة إلى ما ينطوي عليه لفظ الرماد من معنى الاحتراق، والخفة، وقلة الشأن.
أما القيعة فهي الأرض القفر المستوية، التي لا تنبت الشجر. وقيل: هي جمع قاع، وقيعان؛ كجيرة وجار وجيران. وقيل: القيعة مفرد؛ وهو بمعنى القاع.. ولما كان السراب هو ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة؛ وكأنه ملتصق بها، جيء بالباء الدالة على الإلصاق في قوله تعالى:" بقيعة " للتعبير عن هذا المعنى. ولو قيل: كسراب في قيعة، لدل ذلك على أن القيعة كالظرف للسراب، وأن السراب داخل القيعة، وهو ليس كذلك؛ ولهذا اشترط الفرَّاء في السراب أن يكون ملتصقًا بالأرض.
وفي قوله تعالى:" يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء " إشارة إلى خداع النفس بعد خداع البصر بهذا السراب؛ فإن لهفة الظمآن، وحرارة شوقه إلى الماء تغطي على عقله، فيحسب السراب ماء. مثله في ذلك مثل الخائف المذعور في سواد الليل ووحشته، يمثِّل له الوهم أشباحًا تطلع عليه من كل أفق، تريد الانقضاض عليه، والفتك به. ولهذا اختار سبحانه للتعبير عن هذا المعنى" يَحْسَبُهُ "، دون﴿ يظنُّه ﴾. وجيء به على صيغة المضارع؛ ليفيد معنى التجدُّد والاستمرار.
ويظهر لنا سر اختيار الفعل﴿ يحسَب ﴾، دون الفعل﴿ يظن ﴾، إذا علمنا هذا الفرق الدقيق بينهما في المعنى؛ وهو: أنَّ يحسِب من الحِسبان بكسر الحاء. والحِسبانُ هو أن يحكم الحاسِبُ لأحد النقيضين من غير أن يخطر الآخر بباله، فيحسِبه ويعقد عليه الأصبع، ويكون بعَرَض أن يعتريه فيه شك. أما يظنُّ فهو من الظنِّ. والظنُّ هو أن يخطر النقيضان ببال الظانِّ، فيُغلِّب أحدهما على الآخر.
وهذا الظمآن عندما رأى السراب حَسِبَه ماء، ولم يخطر بباله أبدًا أنه نقيض الماء، فعقد عليه العزم، وراح يلهث وراءه. لقد خدعه هذا السراب الكاذب؛ كما خدع أولئك الذين كفروا أعمالهم الباطلة، فرأَوْها حسنة، وحسِبوها نافعة، وكان ذلك سبب شقائهم وضلالهم وضياعهم. والله تعالى يقول:" أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ".
ولو قيل:﴿ يحسَبه الرائي ماء ﴾، بدلاً من قوله تعالى:" يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء "، ثم يظهر أنه على خلاف ما قدَّر، لكان بليغًا؛ ولكن أبلغ منه لفظ القرآن؛ لأن الظمآن أشد حرصًا على الماء، من الرائي، وقلبُه أكثرُ تعلقًا به منه.. ثم إن لفظ الظمآن بما ينطوي عليه من معنى المبالغة، وبما يوحي به من معنى اللهفة والتحرُّق وشدة الحاجة، ثم شدة الإعياء والخيبة، يكسب الصورة ثراء وخصوبة، ويعطيها بعدًا وعمقًا، يجعلها أقدر على التعبير والإيحاء.
وقوله تعالى:" حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً " يعني: حتى إذا جاء الظمآن ما حسِبه ماء- وهو السراب- وعلَّق به رجاءه، لم يجده شيئًا أصلاً، لا محققًا، ولا متوهَّمًا؛ كما كان يراه قبل المجيء. وهو جملة شرطيَّة مؤلفة من عبارتين: الأولى شرطية:" حَتَّى إِذَا جَاءهُ ". والثانية جوابية:" لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ". أما العبارة الشرطية فقد أشارت بدخول" حَتَّى "على" إِذَا "إلى نهاية رحلة شاقة، ومعاناة طويلة، أجهده فيها الظمأ، وحفزه إليها الأمل، وأفادت باستعمال" إِذَا "أن الشرط قد تحقق في نهاية هذه الرحلة.


الصفحة التالية
Icon