وأما العبارة الجوابية فقد جيء فيها بلفظ " شَيْئاً "مفعولاً به ثانيًا لقوله:" لَمْ يَجِدْهُ "؛ ليفيد معنى العدم. وكان يمكن أن يقال:﴿ لم يجده ماء ﴾؛ ولكن لفظ" شَيْئاً " جعله عدمًا محضًا. فتأمل هذا الشرط الذي ربط هذا العدم المحض بذلك السعي الدءوب، وهذا هو الخسران المبين! وصدق الله سبحانه؛ إذ يقول:
" قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا " (الكهف: ١٠٣-١٠٥)
تأمل بعد ذلك هذه الهاء في قوله تعالى:" لَمْ يَجِدْهُ "، وكان يمكن أن يقال:﴿ لم يجد شيئًا ﴾؛ ولكن ذكر الهاء نصَّ على الأمل المنشود، وصيَّره عدمًا، وفي ذلك إبراز للمغزى، وخيبة الأمل. وشيء آخر في ذكر هذه الهاء، وهو تهيئة الكلام لما بعده؛ لأنه لو قيل:﴿ حتى إذا جاءه، لم يجد شيئًا ﴾، لكان ذلك متناقضًا مع قوله:" وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ ".
ثم إن قوله تعالى:" حَتَّى إِذَا جَاءهُ " يدلُّ على شىء موجود، واقع عليه المجيء، وأن قوله تعالى:" لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً "مناقض له؛ لأنه يدلُّ على عدم وجود شىء، يقع عليه المجيء. وقد أجيب عن ذلك بأجوبة أظهرها قول من قال: إن السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء، وإذا اقترب منه الرائي، رقَّ وانتثر وصار كالهواء.
أما قوله تعالى:" وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ "فالمراد به: أنه وجد مقدور الله تعالى عليه من هلاك بالظمأ عند موضع السراب، فأعطاه ما كتب له من ذلك وافيًا كاملاً؛ وهو المحسوب له. وقيل: وجد الله بالمرصاد فوفَّاه حسابه. أي: جزاء عمله. قال امرؤ القيس:
فولى مدبرًا يهوي حثيثًا | وأيقن أنه لاقى حسابا |
" وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ". أي: معجَّل حسابه، لا يؤخره عن أحد؛ وذلك لأنه سبحانه عالم بجميع المعلومات، فلا يشقُّ عليه الحساب. وقال بعض المتكلمين: معناه: لا يشغله محاسبة واحد عن آخر؛ كنحن. ولو كان يتكلم بآلة- كما يقول المشبهة- لما صح ذلك.. وبذلك يكون الكلام مطابقًا للذين كفروا وأعمالهم، من حيث إنهم حسبوها نافعة لهم، فلم تنفعهم، وحصل لهم الهلاك بإثر ما حوسبوا.
٢- وأما التمثيل الثاني فهو قوله تعالى:" أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ"(النور: ٣٩).
وهو تمثيل آخر يصوِّر أعمال الذين كفروا في الدنيا من حيث خلوها عن نور الحق بصورة ظلمات متراكبة من لجج البحر والأمواج والسحاب، بعد أن صُوِّرت في التمثيل الأول بصورة السراب الخادع.
وقيل في الفرق بين التمثيلين: أن التمثيل الأول فيما يؤول إليه أعمالهم في الآخرة، وهذا التمثيل فيما هم عليه في حال الدنيا. قال أبو حيان في البحر:”وبدأ بالتشبيه الأول؛ لأنه آكد في الإخبار، لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم، والعذاب السرمدي، ثم أتبعه بهذا التمثيل، الذي نبَّهَهم على ما هي أعمالهم عليه؛ لعلهم يرجعون إلى الإيمان، ويفكرون في نور الله، الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم“.
والظاهر أن التشبيه في التمثيلين لأعمالهم. وزعم الجرجاني أن الآية الأولى في ذكر أعمالهم، والثانية في ذكر كفرهم. ونسق الكفر على أعمالهم؛ لأن الكفر أيضًا من أعمالهم. ودليل ذلك قوله تعالى:" اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ "(البقرة: ٢٥٧). أي: يخرجهم من الكفر إلى الإيمان.
وقال أبو علي الفارسي: التقدير: أو كذي ظلمات. قال: ودل على هذا المضاف قوله تعالى:" إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ "؛ فالكناية تعود إلى المضاف المحذوف. فالتشبيه وقع عند الجرجاني لكفر الكافر، وعند أبي علي للكافر، لا للأعمال. وكلاهما خلاف الظاهر.
أما" أَوْ " فقيل: هي للتخيير؛ فإن أعمالهم لكونها لاغية، لا منفعة لها كالسراب، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب. وقيل: هي للتنويع؛ فإن أعمالهم إن كانت حسنة فهي كالسراب، وإن كانت قبيحة فهي كالظلمات. وقيل: هي للتقسيم باعتبار وقتين؛ فإنها كالظلمات في الدنيا، وكالسراب في الآخرة. وقيل: هي للإباحة، على تقدير: إن شئت مثل بالسراب، وإن شئت مثل بالظلمات.