أما السبب الأول فهو العمق. فإن الجزء المرئي من أشعة الشمس، الذي ينفذ إلى كتل الماء في البحار والمحيطات، يتعرض لعمليات كثيرة من الانكسار، والتحلل إلى الأطياف المختلفة، والامتصاص بواسطة كل من جزيئات الماء، وجزيئات الأملاح المذابة فيه، وبواسطة المواد الصلبة العالقة به، وبما يحيا فيه من مختلف صور الأحياء، وبما تفرزه تلك الأحياء من مواد عضوية ؛ ولذلك يضعف الضوء المار في الماء بالتدريج مع العمق.
والطيف الأحمر هو أول ما يمتص من أطياف الضوء الأبيض. ويتم امتصاصه بالكامل على عمق، لا يكاد يتجاوز العشرين مترًا. فلو أن غواصًا جرح، وهو يغوص في ماء البحر، فإن الدم، الذي يخرج منه يكون أسودًا؛ لأن اللون الأحمر ينعدم تمامًا، ويصبح هناك ظلمة اللون الأحمر. ويليه الطيف البرتقالي، الذي يتم امتصاصه على عمق ثلاثين مترًا. ثم يليه الطيف الأصفر، الذي يتم امتصاصه زرق اللون، لتشتت هذا الطيف من أطياف الضوء الأبيض في المائتي متر العليا من تلك الكتل المائية.
وبذلك فإن معظم موجات الضوء المرئي تمتص على عمق مائة متر تقريبًا من مستوي سطح الماء في البحار والمحيطات، ويستمر١% منها إلى عمق مائة وخمسين مترًا، و ٠، ٠١% إلى عمق مائتيْ مترٍ في الماء الصافي الخالي من العوالق.
وعلى الرغم من السرعة الفائقة للضوء، فإنه لا يستطيع أن يستمر في ماء البحار والمحيطات لعمق يزيد على الألف متر، فبعد مائتي متر من أسطح تلك الأوساط المائية يبدأ الإظلام شبه الكامل؛ حيث لا ينفذ بعد هذا العمق سوى أقل من ٠، ٠١% من ضوء الشمس، ويظل هذا القدر الضئيل من الضوء المرئي يتعرض للانكسار والتشتت والامتصاص حتى يتلاشى تمامًا على عمق، لا يكاد يصل إلي كيلومتر واحد تحت مستوى سطح البحر ؛ حيث لا يبقى من أشعة الشمس الساقطة على ذلك السطح سوى واحد من عشرة تريليون جزء منها. ثم تغرق أعماق تلك البحار والمحيطات بعد ذلك في ظلام دامس.
وأما السبب الثاني فهو الحواجز من الموج الداخلي، والموج الخارجي، والسحاب. فهذه كلها حواجز، تمنع مرور الشعاع الضوئي إلى الأسفل.
والموج الداخلي هو الذي يعلو البحر اللجِّي ويغطيه، ويعكس معظم ما بقي من الأشعة الشمسيةالساقطة على أسطح البحار والمحيطات، ويحول دون الوصول إلى أعماقها. وبذلك يكون السبب الرئيس في إحداث الإظلام التام فوق قيعان البحار اللجية. ويتكون هذا الموج الداخلي عند الحدود الفاصلة بين كل كتلتين مائيتين مختلفتين في الكثافة. ويبدأ تكونه على عمق أربعين مترًا تقريبًا من مستوى سطح الماء في المحيطات؛ حيث تبدأ صفات الماء فجأة في التغير من حيث كثافتها ودرجة حرارتها، وقد تتكرر على أعماق أخرى، كلما تكرر التباين بين كتل الماء في الكثافة.
ومن فوق هذا الموج الداخلي موج آخر، يسمَّى بالموج السطحي، الذي يعدُّ أحد العوائق أمام مرور الأشعة الشمسية. وبذلك يعد أحد الأسباب في إحداث ظلمة تلك الأعماق، بالإضافة إلى تحلل تلك الأشعة إلي أطيافها، وامتصاصها بالتدريج في الماء.
ومن فوق هذا الموج السطحي يأتي السحاب، الذي يمتص حوالي تسعة عشر جزءًا بالمائة من الأشعة الشمسية المارة من خلاله. ويحجب بالانعكاس والتشتيت نحو ثلاثين جزءًا بالمائة منها، فيحدث قدرًا من الظلمة النسبية، التي تحتاجها الحياة على سطح الأرض. وبذلك تجتمع ظلمة الموج الداخلي، وظلمة الموج السطحي، وظلمة السحاب مع ظلمات الأطياف السبعة، التي يحدثها امتصاص الماء لتلك الأطياف.
والله سبحانه عندما يصف هذه الظلمات، ينسبها إلى عمق البحر اللجي:" كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ".
ثم يقول سبحانه:" ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ "؛ وكأنه يقول لنا: هذه الظلمات الكثيفة المتراكبة سببها الأعماق، وسببها الحواجز. ومن المعروف أن لفظ " ظُلُمَاتٌ " من جموع القلة. وجمع القلة من ثلاثة إلى عشرة. فأنت تقول: ظلمة، وظلمتان، وثلاث ظلمات إلى عشر ظلمات. والظلمات التي تتحدث عنها الآية الكريمة هي عشر ظلمات: سبع منها للألوان، وثلاث للحواجز(الأمواج الداخلية، والأمواج السطحية، والسحاب).
ثم عقب سبحانه على ذلك بقوله:" إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا "مبالغة في بيان شدة هذه الظلمات. والمعنى: إذا أخرج من ابتليَ بهذه الظلمات يده من كمِّه، لم يكد يراها. وجاز إضمار الفاعل- هنا- من غير أن يتقدم ذكره، لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة. وكذا تقدير ضمير يرجع إلى ظلمات. واحتيج إليه؛ لأن الجملة في موضع الصفة لظلمات، ولا بد لها من رابط. وقيل: ضمير الفاعل عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل. أي: إذا أخرج المخرج فيها يده، لم يكد يراها.


الصفحة التالية
Icon