" أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين "(البقرة: ١٤).
المثل الأول: مثل المنافقين مع رسول الله(x)
" مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ " (البقرة: ١٧- ١٨)
وهو مثل يصور حقيقة المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومواقفهم منه بصورة طائفة من الناس مع الذي استوقد نارًا في ليلة شديدة الظلمة. فلما حصل لهم نور من ضوء تلك النار، ذهب الله بنورهم، وتركهم يخبطون في ظلمات بعضها فوق بعض؛ لأنهم آثروا الظلمة على النور، والضلالة على الهدى.. كذلك كان حال المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجمهور المفسرين على القول إن مثل المنافقين، ومثل الذي استوقد نارًا معناه: صفتهم العجيبة كصفته. وذهب الزمخشري إلى أن المعنى: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارًا. وهذا القول يرجع إلى القول الأول. وذهب ابن عطية إلى أن المعنى: أن الذي يتحصل في نفس الناظر في أمرهم كمثل الذي يتحصل في نفس الناظر في أمر المستوقد.
ولكن ظاهر لفظ المثل يقتضي أن يكون للمنافقين مَثَلٌ مطابق لهم في تمام أحوالهم، وأن يكون للذي استوقد نارًا مَثَلٌ مطابق له في تمام أحواله. وكلاهما معنى معلوم موجود في الذهن، الأول معقول، والثاني محسوس. وما بينهما وجه شبه، دلت عليه كاف التشبيه؛ وكأنه قيل: هذا المثل كهذا المثل. أي هذا المثل يشبه هذا المثل في بعض أحواله وصفاته.
ولو لم يكن في الكلام هذه الكاف، لكان بين المثلين تماثلٌ، أو تطابق في تمام الأحوال والصفات؛ لأن التقدير- حينئذ- يكون: مَثلهم مَثلُ الذي استوقد نارًا. ولكن وجود الكاف حصَّن المعنى من هذا التأويل، الذي ذهب إليه بعض النحاة والمفسرين، حين حكموا على هذه الكاف بالزيادة.
وننظر فيما بين المثلين من وجه شبَه:
فنرى في المثل الأول- وهو المشبه- أن المنافقين كانوا في زمرة الكافرين، ثم إنهم أعلنوا إيمانهم للنبي صلى الله عليه وسلم، واتخذوا هذا الإيمان، جُنَّة يتَّقون بها يد المؤمنين إذا هي علَت على الكافرين، وأنزلتهم على حكمهم، وذريعة يتوصَّلون بها إلى ما قد يفيءُ الله على المؤمنين من خير؛ فكان أن فضح الله نفاقهم، وجاءت آياته، تنزع عنهم هذا الثوب، الذي ستروا به هذا النفاق.
ونرى في المثل الثاني- وهو المشبه به- أن الذي استوقد نارًا كان واحدًا في جماعة، في ليل شديد الظلمة، فاستوقد نارًا. أي: طلب أن توقد له. ولما أوقدت النار، وأضاءت ما حوله، واجتمع القوم على ضوئها، الذي بدَّد بنوره ظلام الليل الحالك، ذهب الله تعالى بنور طائفة مخصوصة منهم، فلم يرَوا ما حولهم، ولم يعرفوا وجه الطريق الذي يسلكون، فركبتهم الحَيْرة، وقيَّدهم العمى والضلال. كذلك كان حال المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير:”وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا، ثم كفروا؛ كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم. وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي، ثم قال: والتشبيه ههنا في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نورًا، ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك، فوقعوا في حيرة عظيمة؛ فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين “.
وأضاف ابن كثير قائلاً:”وزعم ابن جرير الطبري أن المضروب لهم المثل- ههنا- لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ "(البقرة: ٨).
والصواب: أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سلبوه، وطبع على قلوبهم. ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية- ههنا- وهي قوله تعالى:" ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ "(المنافقون: ٣)؛ فلهذا وجَّه هذا المثل بأنهم استضاءوا بما أظهروه من كلمة الإيمان. أي: في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة“.
ونقرأ قوله تعالى:" مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ"، فنجد فيه لمحة، من لمحات الإعجاز البياني، نجدها في هذا التخالف بين أجزاء الصورة، في المشبه به؛ حيث كان الظاهر أن يقال:"مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا. فلما أضاءت ما حولهم، ذهب الله بنورهم ".
أو يقال:"مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا. فلما أضاءت ما حوله، ذهب الله بنوره ".
وبذلك يتم التطابق بين أجزاء الصورة.


الصفحة التالية
Icon