وفي ذلك تأكيد على أن الظلمات المذكورة هي ظلمة واحدة، لا متعددة؛ ولكنها لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة.. والدليل على ذلك قراءة اليماني:" وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَة "، على التوحيد.
ومفعولقوله:" لَا يُبْصِرُونَ " محذوف لقصد عموم نفي المبصرات، فتنزل الفعل منزلة اللازم، ولا يقدَّر له مفعول؛ كأنه قيل: لا إحساس بصر لهم. وهذا ما أشار إليه الزمخشري بقوله:” والمفعول الساقط من" لاَّ يُبْصِرُونَ "من قبيل المتروك المُطرَح، الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال، لا من قبيل المقدر المنوي، كأنَّ الفعل غير متعدٍّ أصلاً؛ نحو" يَعْمَهُونَ "في قوله تعالى:" وَيَذَرُهُمْ فِيْ طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ " “.
وفي نفي الفعل بـ"لا "دلالة على طول النفي وامتداده، واستحالة وقوع المنفي بها أبدًا. وفي إطلاق فعل الإبصار، دون تقييده بمفعول محدد دلالة على أنهم في عمًى تام، لا يبصرون شيئًا؛ ولهذا أتبِع بقوله تعالى:" صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ".
أما قوله تعالى:"صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ "فقيل: مرفوع على الاستئناف، على أنه خبر واحد لمبتدأ محذوف، هو ضمير المنافقين. أو أخبار، وتؤول إلى عدم قبولهم الحق. أي: هم صم بكم عمي.
وإذا كان ظاهر اللفظ يوحي بأنهم متصفون بالصمم، والبكم، والعمى، فإن الله تعالى قد بيّن في موضع آخر أن معنى صممهم، وبكمهم، وعماهم هو عدم انتفاعهم بأسماعهم، وقلوبهم، وأبصارهم، فقال جلّ جلاله:
" وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَيْء إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ ِبآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون"(الأحقاف: ٢٦).
فدل ذلك على أنهم، وإن كانوا سمعاء الآذان، فصحاء الألسن، بصراء الأعين، إلا أنهم لمَّا لم يصيخوا للحق، وأبت أن تنطق بسائره ألسنتهم، ولم يتلمحوا أدلة الهدى المنصوبة في الآفاق والأنفس، وصفوا بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى؛ كقوله:

صُم إذا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرْتُ بِه وإنْ ذُكِرْتُ بُسوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
وقيل: الآية هي تتمَّة للتمثيل، وتكميل له بأن ما أصابهم ليس مجرد ذهاب نورهم، وبقائهم في ظلمات كثيفة هائلة، مع بقاء حاسة البصر بحالها؛ بل اختلت مشاعرهم جميعًا، واتصفوا بتلك الصفات على طريقة التشبيه، أو على الحقيقة؛ إذ لا يبعد- كما قيل- فقد الحواس ممن وقع في ظلمات مخوفة هائلة؛ إذ ربما يؤدي ذلك إلى الموت، فضلاًعن ذلك.
ويؤيد كونها تتمة للتمثيل، وتكميلاً له قراءة ابنمسعود، وحفصة أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنهما:"صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ " بالنصب. ونصبُه من وجهين: أحدهما: على معنى: تركهم صمّاً بكمًا عميًا. والثاني: على معنى الذم، فيكون كلامًا مستأنفًا. والعرب تنصب بالذمِّ وبالمدح؛ لأن فيه مع الأسماء مثل معنى قولهم: وَيْلاً له، وثَوَابًا له، وبُعْدًا وسَقْيًا ورَعْيًا.
ومثله على القراءتين قوله تعالى:" إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ "إلى قوله تعالى:" وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ "(التوبة: ١١١). ثم قال جل وجهه:" التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحامِدُونَ.. "، بالرفع في قراءة الجمهور، وفى قراءة عبد الله بن مسعود:" التَّائِبُينَ الْعَابِدُينَ الْحامِدُينَ.. "(التوبة: ١١٢).
وكان ظاهر الكلام يقتضي أن يكون ترتيب هذه الصفات هكذا:" عميٌ، بكمٌ، صمٌّ "- كما في قوله تعالى:" وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً "(الإسراء: ٩٧)- ولكن جاء ترتيبها، على وفق حال المُمَثَّل له، خلافًا للظاهر:" صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ "؛ لأنه يسمع أولا دعوة الحقِّ، ثم يجيب ويعترف، ثم يتأمَّل ويتبصَّر.
وقيل: قدِّم الصَّمَم؛ لأنه إذا كان خَلقيًا يستلزم البَكَم، وأخِّر العمَى؛ لأنه- كما قيل- شامل لعمى القلب الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة، وهو بهذا المعنى متأخر؛ لأنه معقول صِرْف، ولو توسَّط، حلَّ بين العصا ولحائها. ولو قدِّم، لأوهِم تعلقه بقوله:"لا يُبْصِرُونَ ".
وأما قوله تعالى:" فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ "فقيل: المراد به: أنهم لا يرجعون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها. وكلاهما مبنيٌّ على أن وجه التشبيه في التمثيل مستنبط من قوله تعالى:"أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى "(البقرة: ١٦).


الصفحة التالية
Icon