وفي مشهد آخر يتم تصوير دهس المعرضين المنكرين، ويظهر مدي ندمهم، كما لو كان دهسوا وسووا الأرض لكان أهون عليهم من هذا الإعراض، يقول تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوتُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً﴾ [النساء٤١ – ٤٢].
فتصدير المشهد بالاستفهام عن الحال كَيْفَ فيه إبراز لجو الفزع والرعب، وإيحاء بنوعية العذاب الهائل الذي لا يوصف، ولذلك جاء التعبير بالفعل يَوَدُّ ليكشف عن مكنون القلب واعتمال الحالة النفسية فيما لو كانت الأرض قد سويت لهم، وصاروا جزءًا منها، فيبدو المشهد بحركة المجئ جِئْنَا مِنْ كُلِّ، جِئْنَا بِكَ وإبراز المعاناة النفسية التي تصير فيها تسوية الأرض بهم إلي حد الأمنية الغالية والمودة الغائبة، فيتمنون الدهس والتسوية تُسَوَّى بالبناء للمجهول لدلالة رغبتهم في دهسهم وتسويتهم بالأرض من أية جهة وبأية طريقة " منطقة الخاص وطريقته المميزة في التعبير عن موضوعاته، فقد التفت القرآن عن مخاطبة الذهن البشري إلي مخاطبة الحس والوجدان، وذلك بمنطق التصوير لا التقرير، ولمنطق التصوير وسيلته التي ميزت أسلوب تناول القرآن لمختلف الموضوعات الإلهية التشريعية والعقائدية والتعبير عنها ".[٢٠]
وفي موضع آخر من القران الكريم يأتي الفعل الذي لم يسم فاعله؛ ليؤدي دورا بليغا في سياق المشهد الغيبي من ساحة العرض والحساب.. يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً﴾ [طه١٠٢- ١٠٣].
فالغرض يتعلق بعلاقة الحدث يُنْفَخُ ووقعه وأثره في الصور لتقع الأهوال، ولا مجال لظهور الفاعل في المشهد حتى لا يشغل حيزا أو مساحة يحتاجها المشهد بجزئياته وخطوطه، ويَوْمَ نكرة للتهويل، وهو" منصوب بإضمار اذكر، ويجوز أن يكون ظرف المضمر حذف للإيذان بضيق العبارة عن حصره وبيانه أو بدلا من يوم القيامة أو بيانا له أو ظرفا ليتخافتون وقرأ أبوعمرو وابن محيصن ننفخ بنون العظمة على إسناد الفعل إلى الأمر به وهوالله – سبحانه وتعالى – تعظيما للنفخ، لأن ما يصدر من العظيم عظيم "[٢١]
ويقول تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون١٠١].
وقوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر٦٨]
وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً﴾ [النبأ١٨].
فهذه أربعة مواضع من مجموع اثني عشر موضعا للفعل نُفِخَ - يُنْفَخُ هي كل ما جاء في القرآن الكريم في مشاهد القيامة الغيبية، وقد غاب لفظ الفاعل لعدم تعلق الغرض به مثل إبراز الفاعل؛ ليتسلط الضوء على الناس وهم يأتون أفواجا، ولكن في نُفِخَ انْصَبَّ الاهتمام على إبراز الحدث بهوله وشدة صوته التي تكاد تسمعها الآذان، ومن الثابت علميا أن الصوت إذا علا وارتفع كان سببا في إصابة الإنسان بالتوتر العصبي وسرعة الغضب والانفعال، فإذا زاد على حده إلى درجة لم يعد يتحملها الإنسان، أصيب بالصمم، فإذا ظل في الارتفاع خرَّ ميتًا! فالسمع له حدود " فلا تدرك الأذن من الأصوات إلا ما كانت ذبذباته في المدى المسمى بالموجات الصوتية، بينما لا تشعر بموجات اللاسلكي ولا الموجات فوق الصوتية، وحساسية الأذن أيضا محدودة لشدة الصوت، فلا تميز الأصوات لوقلت شدتها عن ١٠١٢٠ وات/م٢ بداية مقياس الديسيبل، ولا تتحمل الأصوات التي تزيد شدتها عن ٢٠٠ ديسيبل، ولو زادت لصعق الإنسان ومات على الفور " [٢٢]
ومن إعجاز القرآن الكريم إثبات تلك الحقيقة قرآنا يتلى منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، بل تنقلب تلك الصاعقة المميتة إلى ضدها، فتتحول تلك النفخة التي أفنت الخلائق، إلي نفخة بعث وحياة!.
قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر٦٨]، ثُمَّ أدت إلى معنى التراخي الزمني بين النفختين، وقوله تعالى: أُخْرَى دل على أن النفخ في الصور نفختان، ويحدث التحول السريع المفاجئ عقب إرسال النفخ إلى الموتى؛ إلى القيام والنظر كما دلت إِذَ الفجائية.
أما مشاهد المادة أو الواقع الملموس أو المحسوس، فاٍن الفعل نُفِخَ لم يأت إلا مبنيا للمعلوم، مثل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾ [السجدة٩].
وقوله تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ [التحريم١٢].


الصفحة التالية
Icon