وقوله تعالى:" فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ "المراد بالظلمات: ظلمة السحمة، وظلمة التطبيق مع ظلمة الليل، على أن المراد بالصيِّب: السحاب المحمَّل بالمطر. وجيء بلفظَيْ الرعد والبرق مفردين، خلافًا للظلمات قبلهما، وللصواعق بعدهما. والسِّرُّ في ذلك أنهما- في الأصل- مصدران. والأصل في المصادر أن لا تجمع، وإن كان جمعها جائزًا في العربية، على أنه لو جُمِعا، دلَّ جمعهما ظاهرًا على تعدد الأنواع، وكلٌّ منهما نوع واحد.
وفي قوله تعالى:" يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ " تنبيه على أن ما صنعوه، من سدِّ الآذان بالأصابع، لا يغني عنهم شيئًا، وقد أحاط بهم الهلاك. وفيه أيضًا مبالغة في فرط دهشتهم، وكمال حيرتهم، من وجوه: أحدها: نسبة الجعل إلى الأصابع كلها، وهو منسوب إلى بعضها؛ وهو الأنامل. وثانيها: من حيث الإبهام في الأصابع. والمعهود إدخال السبابة؛ فكأنهم، من فرط دهشتهم، يدخلون أيَّ أصبع كان، ولا يسلكون المسلك المعهود. ثالثها: في ذكر الجعل موضع الإدخال؛ فإن جَعْلَ شيءٍ في شيء أدلُّ على إحاطة الثاني بالأول، من إدخاله فيه.
والصَّوَاعِقِ جمع: صاعقة. والظاهر أنها- في الأصل- صفة من الصَّعْق؛ وهو الصُّراخ، ثم صارت اسمًا لكل هائل مهلك مسموع، أو مشاهد. وتاؤها للمبالغة كراوية. أو مصدرًا كالكاذبة والعافية. يقال: صعقته الصاعقة: إذا أهلكته بالإحراق، أو شدَّة الصوت. وهي نار لطيفة حديدة. لا تمرّ بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت. ويقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته، فصعق؛ أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق. ومنه قوله تعالى:" وَخَرَّ موسَى صَعِقًا "(الأعراف: ١٤٣).
وقرأ الحسن:" مِنَ الصَّوَاقِعِ "؛ وليس بقلب للصواعق، لأنَّ كلا البنائين سواء في التصرف. وإذا استويا، كان كل واحد بناءً على حياله. ألا تراك تقول: صقعه على رأسه، وصقع الديك، وخطيب مصقع: مجهر بخطبته.
وقد ثبت أن الأرض وما عليها مشحونة كهربيًا. وعندما تكون هناك سحب مشحونة بشحن كهربائية متناقضة، فإنه قد تنشأ شرارة كهربائية. والصوت الذي يُنشِئ هذه الشرارة يُسمَّى: رعدًا. وتتوقف شدة هذا الصوت على حجم السحب وقربها من الأرض. أما الضوء الذي ينشأ عن حدوث الشرارة فيسمى: برقًا. وقد تخترق هذه الشرارة الجو بسرعة هائلة، فتنزل إلى الأرض، فتحرق الأشجار، وغيرها، وتسمى حينئذ: صاعقة. قال تعالى:" فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِم "(النساء: ١٥٣).
ويتسبب البرق، أو الصواعق البرقية في الكثير من الأضرار للمباني والتجهيزات الكهربائية. ولذلك نجد أن المباني عادة ما تُجهَّز بمانعات الصواعق، وهي وسائل لتفريغ الشحنة الكهربائية الضخمة الناتجة عن البرق.
وفي قوله تعالى:" وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ "إشارة إلى دورة من دورات المنافقين؛ حيث انتهى بهم تردُّدهم، بين الإيمان والكفر، إلى الكفر الغليظ. ولم يُجْدِ عنهم حَذرُهم، ولا تدبيرهم شيئًا؛ لأن الله تعالى محيطٌ بهم. أي: لا يفوتونه أبدًا؛ فهم في قبضته، وتحت قهره ومشيئته. والجملة اعتراضية منبهة على أن ما صنعوا من سد الآذان بالأصابع، لا يغنى عنهم شيئًا؛ فإن القدر لا يدفعه الحذر، والحيل لا ترد بأس الله عز وجل.
وقال تعالى:" مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ "، ولم يقل:﴿ مُحِيطٌ بِهِمْ ﴾. أي: بالمنافقين؛ ليدخل في عمومه المشركون، والمنافقون، وغيرهم من الذين كفروا من أهل الكتاب. وللدلالة على ثبوت هذا المعنى ولزومه عبَّر عنه تعالى بالجملة الاسمية، دون الفعلية، لما فيها من دلالة على معنى الثبوت والدوام.
فإحاطته سبحانه بهم ثابتة، وعذابه لهم واقع لا محالة، ولا مَدْفَع لهم منه، في الدنيا، والآخرة؛ كما قال سبحانه وتعالى:"هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ *فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ *بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ *وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ "(البروج: ١٧-٢٠).
وقال تعالى:" يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ "، فأدخل الفعل " يَكَادُ "على جملة:" الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ "؛ ليدل بذلك على قرب وقوع الخبر، وأنه لم يقع. وأسند خطف الأبصار إلى البرق لِما في الخطف من معنى الأخذ، أو الاختلاس بسرعة، إضافة إلى معنىالمباغتة والمفاجأة؛ كما يشير إليه قوله تعالى في صفة الشياطين:" إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ "(الصافات: ١٠)، فعبَّر عن استراق الشياطين للسمع بقوله:" خَطِفَ الْخَطْفَةَ ". ومنه سُمِّيَ الطيرُ خطَّافًا لسرعته؛ ولهذا أسند فعل الخطف إلى الطير في قوله تعالى:" وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيق "(الحج: ٣١).