الواقع وينبغي ألا يأخذه القارئ مأخذا حرفيا، وإلا لم يكن للكلام معنى: فمثلا ليس هناك للشمس تحتٌ ولا فوقٌ، وإنما هو تعبير بشرى، فنحن أينما كنا على الأرض نتصور أن الشمس فوقنا، ومن ثم فنحن تحتها، على حين أنه لو كان الأمر كذلك لكان ينبغي إذن أن نكون "فوق" الشمس بعد ستة أشهر من ذلك حين تدور الأرض نصف دورتها السنوية، وهذا لا يصير. كذلك فليس للشمس عين (ولا أذن ولا أنف) أصلا حتى نكون أوْ لا نكون في عينها، كما أنها ليس لها طريق تسير فيه على الأرض، ودَعْك من أننا يمكن أن نسير نحن فيه أيضا. وبالنسبة لقول قابيل إنه هرب في الأرض، فهو مجرد تعبير بشرىّ، وإلا فقولنا: "في الأرض" إنما يعنى حرفيا: "داخل الأرض"، وهو ما لا يقصده قابيل ولا أي إنسان آخر في مثل وضعه... وهكذا.
وقبل كل ذلك فإن الكلام هنا ليس كلاما في علم الطبيعة أو الجغرافيا أو الجيولوجيا، بل هو كلام أدبي يقوم في جانب منه على التعبيرات المجازية والتجسيدية والتشخيصية وما إلى ذلك. باختصار: هذه هي طبيعة اللغة، أما الكلاب التي تنبح المارة وتعضهم لا لشىء سوى أنه قد قيل لها: انبحي أي مارٍّ من هنا وعضّيه، فإنها لا تفهم هذا ولا تفقهه ولا تدركه ولا تتذوقه، إذ متى كانت الكلاب تستطيع أن تتذوق شيئا غير العظم المعروق الذي أُكِل ما عليه من لحم، ثم أُلْقِىَ به لها تعضعضه وتمصمصه تحت الأقدام؟ وعلى هذا فليس هناك أي متعلَّق لأي إنسان كائنا من كان كي ينتقد الآية القرآنية إلا إذا كان يريد النباح والعضّ والسلام، ولا يبغى فهما أو معرفة. فالحرف "في" في الآية الكريمة لا يعنى "داخل العين الحمئة" لأن الآيات القرآنية التي تذكر الشمس (كما سنوضح لاحقا) تتحدث عنها على أنها جِرْمٌ موجودٌ في الفضاء لا يغادره أبدا، بل يعنى أنه قد تصادف وقوع غروب الشمس حين كان ذو القرنين في ذلك المكان عند العين الحمئة، وإن كان ما شاهده بعينه يوحى أنها قد غربت في تلك العين. وحتى لو قيل إنها لم تغرب في العين بل وراء العين أو عند العين أو ما إلى ذلك، فإن هذا كله لا يصح من الناحية العلمية، فالشمس لا تبتعد ولا تختفي، بل الأرض هي التي تتحرك حولها، فتبدو الشمس وكأنها هي التي تغيب. لكنى قد عثرت أثناء تقليبي في المشباك بمن يقول معترضا على الآية إن مثل هذا التوجيه كان يمكن أن يكون مقبولا لو أن الآية فالت إن ذا القرنين "رأى" أو "شاهد" الشمس تغرب في العين، أمّا والآية تقول إنه "وجدها" تغرب في عينٍ حمئةٍ فمعنى هذا أن المقصود هو أنها كانت تغرب في العين فعلا. وقد جعلني هذا أفكر في استعمال هذا الفعل في مثل ذلك السياق في العربية لأرى أهو حقا لا يعنى إلا أن الأمر هو كذلك في الواقع لا في حسبان الشخص وإدراكه بغضّ النظر عما إذا كان هذا هو الواقع فعلا
أو لا. وقد تبين لي أن الأمر ليس كما ذهب إليه ذلك المعترض الذي سمي نفسه: "جوتاما بوذا" أو شيئا كهذا، فنحن مثلا عندما يُسْأَل الواحد منا السؤال التالي عن صحته: "كيف تجدك اليوم؟" (أي "كيف حالك؟") يجيب قائلا: "أجدنى بخير وعافية"، وقد يكون هذا القائل مريضا لكنه لا يدرى لأن أعراض المرض ليست من الوضوح أو لأنه من الاندماج في حياته اليومية بحيث لا يتنبه لحالته الصحية الحقيقية. وبالمثل يمكن أن يقول الواحد منا (صادقا فيما يظن) إنه وجد فلانا يضرب ابنه عند البيت، بينما الحقيقة أنه كان يداعبه أو كان يضرب ابن الجيران مثلا، لكن المتكلم توهم الأمر على ما قال. كذلك فالمصاب بعمى الألوان قد يقول إنه وجد البطيخة التي اشتراها خضراء على عكس ما أكد له البائع، ثم يكون العيب في الشاري لا في البائع ولا في البطيخة. أما المتنبي في قوله:
ومن َيكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ** يجدْ مُرًّا به الماءَ الزُّلالا