وإذا نظرنا إلي هذا المشهد بكائناته وجزئياته، نجد أن التعبير بالفعل الذي لم يسم فاعله هو الأسلوب السائر في كل المشهد عدا جزئية واحدة فقط هي صورة انصباب النجوم وتنافرها وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَت وقد جاء التعبير عن هذا المشهد بالفعل المبني للمعلوم! ولعل السر في ذلك أن النجوم في مراحل انكدارها تمر بمراحل من الميلاد والشباب والشيخوخة قبل أن تنفجر أو تتكدس على ذاتها فتطمس طمسا كاملا: النجوم الابتدائية ثم العادية ثم العماليق الحمر ثم السدم الكوكبية ثم الأقزام البيض ثم فوق مستعر من الطراز الأول ثم الثاني ثم النجوم النيترونية النابضة وغير النابضة والثقوب السوداء والنجوم المفردة والمزدوجة والمتعددة، والنجوم أفران كونية يتم في داخلها سلاسل من التفاعلات النووية التي تعرف باسم عملية الاندماج النووي. [٢٧]
فيتضح مما سبق أن النجوم تنفرد بخاصية هائلة من طبيعة التكوين والتكون والانتشار والانشطار والانفجار، فلها طبيعتها الكونية التي لا تماثلها طبيعة كونية أخرى فيما عرف من الوجود، وقد أثبت العلم حديثا أن النجوم علي انتشارها الهائل في السماء تشتمل علي درجة حرارة عالية بدرجة مذهلة، وتنقسم تبعا لذلك إلى " نجوم حمراء أقلها حرارة ٣٢٠٠ درجة مطلقة – نجوم برتقالية – نجوم صفراء – نجوم بيضاء مائلة إلي الزرقة – نجوم زرقاء أشدها حرارة ٣٠٠ ألف درجة مطلقة – الشمس من النجوم الصفراء متوسطة الحرارة، إذ تبلغ درجة حرارة سطحها حوالي ستة آلاف درجة مطلقة."[٢٨]
ثَانِيًا: المشَاهِدُ الخَفِيَّةُ
يجسد الفعل الذي لم يسم فاعله أجزاء المشهد الذي نري فيه موسي عليه السلام يفاجأ بالنداء الذي يأتيه من حيث لا يدري ولا يحتسب فنراه وقد اعترته الدهشة وهول المفاجأة وأخذ يتلفت هنا وهناك؛ ليقف على حقيقة الصوت يقول تعالى:﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى﴾ [طه١١]
﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل٨]
﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [القصص٣٠]
وقد تغاير الفعل من أَتَاهَ إلي جَاءَهَ، لأن"أتي" و"جاء" بمعني واحد، لكن لكثرة دور أن لفظ الإتيان في طه نحو: " فأتياه"، " فلنأتينك"، " ثم أتي"،" ثم أتُوا صَفًّا "، " حيث أتي "، كان لفظ أتاه به أليق، ولفظ " جاء " في النمل أكثر نحو: " فلما جاءتهم "، " وجئتك من سبإ "، "فلما جاء سليمان "، كان لفظ جاءه به أليق، وألحق القصص ب: " طه " لقرب ما بينهما – أي القرب اللفظي في هذا الموضع [٢٩]
البِنَاءُ لِلْمَجْهُولِ وَإِفَادَةِ العُمُومِ
يتسم الأسلوب القرآني الكريم – فيما يتسم – بالمرونة والاتساق مع المشاهد واللوحات النابضة بحياة الموقف، حتى إننا لنجد الكلمة بذاتها تأتي في عدة سياقات ولها دلالة مختلفة في كل سياق بحسب ما يقتضيه المعني ويتطلبه المقام، وكلما ازداد الزمان عمرا، وبلغ الدهر شأوا وغاية انبثقت أساليب القرآن وكلماته؛ لتشع بضوئها ونورها؛ لتنطلق كائنات الوجود من جديد بمراميه و دلالته، " وما أشبه القرآن الكريم في تركيب إعجازه، وإعجاز تركيبه بصورة كلامية من نظام هذا الكون الذي اكتنفه العلماء من كل جهة، وتعاوروه من كل ناحية، وأخلقوا جوانبه بحثا وتفتيشا، ثم هو بعد لا يزال عندهم على كل ذلك خلقا جديدا، ومراما بعيدا، وصعبا شديدا "[٣٠].