لماذا ترتيب الآيات على هذا النحو؟ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (٧) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (٨)
هذا هو الترتيب الطبيعي في الحياة. اليتم يقال لمن فقد والديه أو احدهما وهو دون سن البلوغ فإذا بلغ انتفت عنه صفة اليتم، وإذا بلغ دخل في سن التكليف الشرعي فهو يحتاج إلى الهداية ليتعلم كيف يسير في الحياة قبل أن يكون فقيراً أو غنياً وكيف يجمع المال الحلال لأن كل مال جمع من غير طريق الهداية هو سحت ثم تأتي العيلة وهي أمر آخر بعد البلوغ ؛ من الناس من يكون فقيراً أو غنياً وعلى الاثنين أن يسيرا وفق التعاليم التي تعلماها بعد البلوغ مباشرة وهذا طبيعي ويمر به كل الخلق فهذا هو التسلسل الطبيعي في الحياة. لذا فقد بدأ سبحانه بالحالة الأولى (اليتم) ثم إذا بلغ تأتي الهداية في المرتبة الثانية، وثالثاً العائل والغني يجب أن يسيرا على الهداية.
- قوله ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)
القهرفي اللغة : هو التسلط بما يؤذي ولا تقهره بمعنى لا تظلمه بتضييع حقه ولا تتسلط عليه أو لا تحتقره أو تغلب على ماله، كل هذه المعاني تدخل تحت كلمة القهر.
السائل اختلف المفسرون فيها فقال بعضهم : هو سائل المال والمعروف والصدقة ومنهم من قال : انه سائل العلم والدين والمعرفة وقسم قال انه مطلق ويشمل المعنيين، فسواء كان السائل سائل مال وصدقة أو سائل علم ومعرفة يجب أن لا ينهر مهما كان سؤاله. لا يصح أن يزجز أو ينهر سائل المال أو سائل العلم والدين. إذا كان سائل مال أعطيناه أو رددناه بالحسنى وسائل العلم علينا أن نجيبه ونعلمه أمور الدين.
أما النعمة فقال بعض المفسرين إنها النبوة وتعاليمها وقال آخرون إنها كل ما أصاب الإنسان من خير سواء كان في الدنيا أو الآخرة. وقال آخرون إنها نعمة الدين (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) والواقع أن النعمة هنا أيضاً تشمل كل هذه المعاني فهي نعمة الدين يجب أن يتحدث بها ويبلغ عنها وهي نعمة الدنيا والله سبحانه يحب أن يرى اثر نعمته على عباده وان يتحدث الإنسان بنعم الله عليه وان يظهرها والنعمة عامة في الدنيا والدين وعلى الإنسان أن يحدث بهذه النعمة. (النعمة بفتح النون وردت في القرآن بمعنى العقوبات والسوء كما في قوله (ونعمة كانوا فيها فاكهين) (الكافرين أولي النعمة)
لماذا اختيار كلمة (فحدث) ولم يقل (فأخبر)؟
الإخبار لا يقتضي التكرار يكفي أن تقول الخبر مرة واحدة فيكون إخباراً أما التحديث فهو يقتضي التكرار والإشاعة أكثر من مرة، وفي سياق الآية يجب أن يتكرر الحديث عن الدعوة إلى الله مرات عديدة ولا يكفي قوله مرة واحدة. ولهذا سمي الله تعالى القرآن حديثا (فليأتوا بحديث مثله). فمعنى (فحدث) في هذه الآية هو المداومة على التبليغ وتكرارها وليس الإخبار فقط فيمكن أن يتم الإخبار مرة واحدة وينتهي الأمر.
وفي تسلسل الأحاديث في كتب السنة نلاحظ أنهم يقولون: حدثنا فلان عن فلان ويكررون ذلك مرة أو مرات عديدة حتى يصلوا إلى أخبرنا رسول الله ﷺ فالرسول الكريم يخبر بالحديث ثم يتناقله الصحابة فيما بينهم ويستمر تناقل الحديث حتى يعم وينتشر.
لماذا جاء ترتيب الآيات على هذا النحو؟ ( فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث ).
أثار هذا الترتيب الكثير من الأسئلة عند المفسرين لماذا رتبت الآيات على هذه الصورة لأنه لا يرد بنفس تسلسل الآيات السابقة (الم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلاً فأغنى).
لنستعرض الآيات واحدة واحدة: أما اليتيم فلا تقهر جاءت بنفس تسلسل الآية (ألم يجدك يتيما فآوى) نفس النسق.
، أما السائل فلا تنهر كان من المفروض أن تأتي مقابلة للآية (ووجدك عائلا فأغنى) لكنها جاءت في مقابل الآية (ووجدك ضالاً فهدى)
( وأما بنعمة ربك فحدث )، كان يجب أن تقدم باعتبار النعمة دين ويجب أن تكون مقابل ( ووجدك ضالاً فهدى )
لكن الواقع أن ترتيب الآيات كما ورد في السورة هو الترتيب الأمثل، كيف؟ اليتيم ذكر أولا مقابل اليتيم، ثم ذكر ( وأما السائل فلا تنهر ) قلنا سابقا أن السائل يشمل سائل العلم والمال وهنا اخذ بعين الاعتبار السائل عن المال والسائل عن العلم فهي إذن تكون مقابل (ووجدك ضالاً فهدى) وأيضاً (ووجدك عائلا فأغنى) لان السائل عن المال يجب أن لا ينهر والسائل عن العلم يجب أن لا ينهر أيضاً وعليه فان الآية جاءت في المكان المناسب لتشمل الحالتين ومرتبطة بالاثنين تماما.
( وأما بنعمة ربك فحدث )، هي في انسب ترتيب لها فان كان المقصود بالنعمة كل ما أصاب الإنسان من خير في الدنيا فلا يمكن أن نتحدث عن النعمة إلا بعد وقوعها وليس قبل ذلك. والآيات السابقة تذكر نعم الله على الرسول فاقتضى السياق أن يكون التحدث بالنعمة آخراً أي بعد حدوث كل النعم على الرسول صلى الله عليه وسلم.