وفي آية الشعراء إنكار من نبي الله صالح عليه السلام لثمود وقومه الذين أعرضوا عن دعوته وقد غرتهم الدنيا وفتنتهم بملذاتها ومادياتها، وفي قوله تعالى: في ما ها هن " كناية عن قرية صالح عليه السلام، والسر في إيثار اسم الإشارة ها هن لفت أنظارهم لفتا قويا لمظاهر النعم التي كانوا غارقين فيها، آمنين حال من نائب الفاعل – واو الجماعة وهو قسيم الترك في الإنكار، إذ ليس ما سلط عليه الإنكار هو الترك وحده، بل الترك المقرون بالأمن من كل المخاوف ".[٣٨]
وفي آية العنكبوت إنكار علي من توهم من المؤمنين أنه يترك دون امتحان واختبار لمجرد أنه نطق بالشهادة، وفي قوله تعالى: أحسب الناس إيثار الماضي " لأن حسبان الذي سلط عليه الإنكار واقع متحقق، وإيثار حسب على ظن في هذه المواضع هو المناسب بلاغة في مقام الإنكار؛ لأن الحسبان أقوى من الظن، فالنفس مع الحسبان في اطمئنان، ومع الظن في قلق، وفي الناس مجاز مرسل؛ حيث أطلق العام المنتظم لجميع أفراد الناس، ثم أريد الخاص، وهم الذين حسبوا هذا الحسبان من المؤمنين ".[٣٩]
وفي آية الإنسان يأتي الإنكار على من توهم أن يترك سدي، أي: لا يبعث[٤٠]، والمقصود هنا إثبات المعاد، والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد. [٤١]
تبين مما سبق أن الفعل يترك جاء بصيغة المبني للمجهول؛ لأنه في موضع التوبيخ والإنكار، فيتطلب الذوق البلاغي ألا يذكر لفظ الفاعل تشريفا وتعظيما وتنزيها عن الذكر في مثل هذه المواقف، ومن شأن ذلك – أيضا – أن يتسلط الضوء ويلتفت الذهن إلى الحدث – وهو الترك – وأثره على أهله.
وإذا نظرنا إلي الفعل يتلى، تتلى الذي جاء في القرآن الكريم غير مسمى الفاعل، وجدناه قد جاء في موضع الإنكار والحديث عن المعرضين والمنكرين، وقد جاء – أيضا – في معرض الحديث عن المؤمنين الذين أذعنوا للحق، وأنه قد أتى في حق المنكرين والمعرضين أكثر، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَونَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾[لأنفال٣١] فالفعل المبني للمجهول يصور إنكارهم وإعراضهم، وكأننا نسمع أصواتهم عالية تقول: نحن نجهل هذا الكلام ومصدره، وقد جاءت كلمة آياتن مضافة إلي الضمير ن لتقريعهم وتبكيتهم، وقد نزلت هذه الآية الكريمة في النضر بن الحارث، " وكان خرج إلي الحيرة في التجارة، فاشترى أحاديث كليلة ودمنة، وكسرى وقيصر، فلما قص رسول الله ﷺ أخبار من مضى، قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا، وكان هذا وقاحة وكذبا، وقيل: أنهم توهموا أنهم يأتون بمثله " [٤٢] وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ [المؤمنون١٠٥]
هؤلاء القوم المخاطبون هم أهل النار، وفيه ترهيب من مصيرهم وتحذير من الوقع في مثل ما وقعوا فيه من جراء إعراضهم وإنكار تلاوة آيات الله عليهم، ولذلك جاء التعبير بصيغة المبني للمجهول تتلى لتصور طبيعة الموقف وما كانوا عليه في دنياهم.
وقد جاءت تلك الصيغة تتلى في سياق الآية المصدرة بالاستفهام المفيد للتقرير والإنذار، وقوله: آياتي كناية عن القرآن، والسر البلاغي في إيثارها على الاسم الصريح، ما فيها من خصوصية الدلالة على المعجزات الباهرة، وأوثر حرف الجر على على حرف اللام فقال: عليكم دون إليكم للرمز بعلو شأن الآية، وما فيها من الإيحاء بمعنى الإلزام والعطف بالفاء في فكنتم بها تكذبون للتشنيع عليهم في سرعة التكذيب. [٤٣] وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً﴾ [مريم٧٣]
وصدرت الآية الكريمة ب: إذ لأن التلاوة مقطوع بوقوعها، وهي وإن كانت محذوفة الفاعل لعدم تعلق الغرض به، إلا أن ذلك الحذف يوحى بمقام التوبيخ والذم والتبكيت، " وتأويل الكلام؛ وإذا تتلي عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين منا ومنكم أوسع عيشا وأنعم بالا وأفضل مسكنا وأحسن مجلسا وأجمع عددا وغاشيته في المجلس نحن أم أنتم "[٤٤].
وقوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الجاثية٧- ٨] فهوأفاك كذاب، لا يكتفي بالإعراض والتولي، ولكنه يصر على الكبر والاستكبار، هذا ومن الملاحظ أن تلك الآيات ومثيلتها التي جاءت في معرض الحديث عن المعرضين جاء الفعل الذي لم يسم فاعله تتلى – يتلى مقرونا بالكناية عن القرآن الكريم بكلمة الآيات المتصلة بالضمير التفخيمي الدال على عظمة الله – سبحانه – فنزل الآيات، نحو آياتنا – آياتي.


الصفحة التالية
Icon