و- الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا الوحي، فمن ذلك: ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان، بقوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ)) [التوبة: ٣٣] ففعل ذلك، وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله من إظهار دينه ليثقوا بالنصر، وليستيقنوا بالنجاح.
ز- ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام، في الحلال والحرام، وفي سائر الأحكام.
ح- الحكم البالغة، التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي.
ط- التناسب في جميع ما تضمنه ظاهراً وباطناً من غير اختلاف، قال الله تعالى: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)) [النساء: ٨٢] [٥].
ومن فصاحة القرآن أن الله تعالى جل ذكره، ذكر في آية واحدة أمرين، ونهيين وخبرين وبشارتين، وهو قوله تعالى: ((وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ...)) [القصص: ٧] [٦].
رابعاً: بم وقع التحدي؟ :
(إن قال قائل: بينوا لنا ما الذي وقع التحدي إليه أهو الحروف المنظومة أو الكلام القائم بالذات أو غير ذلك؟
قيل: الذي تحداهم به أن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم القرآن، منظومة كنظمها، متتابعة كتتابعها، مطردة كاطرادها، ولم يتحدهم إلى أن يأتوا بمثل الكلام القديم الذي لا مثل له.
وإن كان كذلك فالتحدي واقع إلى أن يأتوا بمثل هذه الحروف المنظومة، التي هي عبارة عن كلام الله تعالى في نظمها وتأليفها) [٧].
لمن وقع التحدي؟:
(التحدي إنما وقع للإنس دون الجن؛ لأن الجن ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه، وإنما ذكروا في قوله: ((قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ)) [الإسراء: ٨٨] تعظيماً لإعجازه؛ لأن الهيئة الاجتماعية لها من القوة ما ليس للأفراد، فإذا فرض اجتماع جميع الإنس والجن، وظاهر بعضهم بعضاً، وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد أعجز) [٨].
كلمة للإمام السيوطي رحمه الله
(الحمد لله الذي جعل معجزات هذه الأمة عقلية؛ لفرط ذكائهم وكمال أفهامهم، وفضلهم على من تقدمهم، إذ معجزاتهم حسية لبلادتهم وقلة بصيرتهم، نحمده سبحانه على قوله لرسوله: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)) [النحل: ٤٤]. وخصه بالإعانة على التبليغ، فلم يقدر أحد منهم على معارضته بعد تحديهم وكانوا أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء، وأمهلهم طول السنين فعجزوا، وقالوا: ((وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)) [العنكبوت: ٥٠، ٥١].
فأخبر تعالى أن الكتاب آية من آياته قائم مقام معجزات غيره من الأنبياء لفنائها بفنائهم) [٩].
(أما بعد:
فإن إطلاق السلف رضي الله عنهم على كلام الله أنه محفوظ في الصدور مقروء بالألسنة مكتوب بالمصاحف، هو بطريق الحقيقة لا بطريق المجاز، وليسوا يعنون بذلك حلول كلام الله تعالى القديم في هذه الأجرام، تعالى الله عن ذلك! وإنما يريدون أن كلامه جل وعلا مذكور مدلول عليه [١٠] بتلاوة اللسان، وحفظ الجنان، وكتابة البنان، فهو موجود فيها حقيقة وعلماً لا مدلولاً، وقد أفرد علماؤنا رضي الله عنهم بتصانيف إعجاز القرآن وخاضوا في وجوه إعجازه كثيراً، وأنهى بعضهم وجوه إعجازه إلى ثمانين، والصواب أنه لا نهاية لوجوه إعجازه، كما قال السكاكي في المفتاح: اعلم أن إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن، تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة، وكما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت، ولا يدرك تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة، إلا بإتقان علمي المعاني والبيان، والتمرين فيهما [١١].
فإن قلت: هل يقال: إن غير القرآن من كلام الله معجز كالتوراة والإنجيل؟
فالجواب: ليس شيء من ذلك معجزاً في النظم والتأليف، وإن كان معجزاً كالقرآن فيما يتضمن من إخبار بالغيوب، وإنما لم يكن معجزاً؛ لأن الله لم يصفه بما وصف به القرآن، ولأنا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما وقع في القرآن، ولأن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي به إلى حد الإعجاز) [١٢].
حفظ السطر والصدر
١- الإعجاز: تيسير حفظه، قال تعالى: ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) [القمر: ٢٢] وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منهم فكيف الجم، على مرور السنين عليهم، والقرآن ميسر حفظه للغلمان في أقرب مدة، حتى أن منهم من حفظه في المنام، ويحكي أنه رفع إلى المأمون صبي ابن خمس سنين وهو يحفظ القرآن [١٣].
٢- الإعجاز: كونه محفوظاً عن الزيادة والنقصان، محروساً عن التبديل والتغيير على تطاول الأزمان، بخلاف سائر الكتب، قال تعالى: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر: ٩] فلم يقدر أحد بحمد الله على التجاسر عليه [١٤].
حسن التآلف


الصفحة التالية
Icon