يبدأ الخطابي رسالته (بيان إعجاز القرآن) بالاعتراف بتعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن، ومعرفة الأمر في الوقوف على كيفيته، ثم بدأ في ذكر وجوه الإعجاز فحددها. وفي نهاية رسالته عاد الخطابي إلى تأكيد رأيه في الإعجاز القرآني، وذلك باختياره الإعجاز التأثيري كأهم وجه من وجوه الإعجاز. فقال: (قلت: في إعجاز القرآن وجه آخر، ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب، وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن ـ منظوماً ولا منثوراً ـ إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه، عادت إليه مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس ومضمراتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول (ص) من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات من القرآن فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عدواتهم موالاة، وكفرهم إيماناً.
خرج عمر بن الخطاب (رض) يريد رسول الله (ص) ويعمد إلى قتله، فسار إلى دار أخته وهي تقرأ (سورة طه)، فلما وقع في سمعه لم يلبث أن آمن.
وبعث الملأ من قريش عتبة بن ربيعة إلى رسول الله (ص) ليوقفوه على أمور أرسلوه بها، فقرأ عليه رسول الله (ص) آيات من (حم السجدة) فلما أقبل عتبة وأبصره الملأ من قريش قالوا: أقبل أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. ولما قرأ رسول الله (ص) القرآن في الموسم على النفر الذين حضروه من الأنصار آمنوا، وعادوا إلى المدينة فأظهروا الدين بها، فلم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وفيه قرآن. وقد روي عن بعضهم أنه قال: فتحت الأمصار بالسيوف، وفتحت المدينة بالقرآن.
ولما سمعته الجن لم تتمالك أن قالت: (إنّا سمعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرشد فآمنّا به)، ومصداق ما وصفناه في أمر القرآن في قوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله)، وقوله تعالى: (الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله)، وغير ذلك في آي ذوات عدد منه، وذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد، وهو من عظيم آياته، ودلائل معجزاته.
٢ ـ الإعجاز التأثيري عند عبد القاهر الجرجاني (ت ٤٧٣هـ):
نبه الدكتور محمد بركات أبو علي إلى مسألة هامة في بحثنا هذا، وهي: تأثر عبد القاهر بسلفه الخطابي في نظرته لإعجاز القرآن. يقول الدكتور محمد بركات: (مما تميز به الخطابي: أنه أبرز وجهاً للإعجاز، وهو الأثر النفسي، وأصبح هذا الرأي أساساً من أسس نظرية عبدا لقاهر في النظم في كتبه وكتب بعض المعاصرين في الأدب...).
وذكر بعض الباحثين: أن عبد القاهر الجرجاني كان يعتمد على ذوقه الوجداني في حديثه عن إعجاز القرآن، وعرضه لموقف البلاغيين، وكيف أنهم انشغلوا بقضية اللفظ والمعنى، حتى وصلوا في التقسيم والتبويب إلى درجة من التعقيد لا تطاق، ولم يستثن منهم سوى عبدالقاهر، لأنه تذوق النص القرآني، وتفاعل وتأثر به تاثراً واضحاً.
والدكتور عبد الكريم الخطيب عندما تعرض لموقف عبد القاهر من قضية الإعجاز فقال عنه: )إن عبد القاهر لم يتحدث عن الإعجاز حديثاً مباشراً، وإنما جعل وجه الإعجاز عنده يقوم على الذوق الوجداني). وقال أيضاً: (ولو لم يكن لعبد القاهر فضل هنا إلا أنه دفع عن البلاغة هذا المفهوم الخاطئ الذي كان يذهب مذاهب الجدل اللفظي البعيد عن الذوق الجمالي والجائر على حظ العاطفة والوجدان منها ـ لو لم يكن له إلا هذا لكان ذلك فضلاً كبير يعرف له، ونستطيع أن نستنبط من هذه الأقوال: أن عبد القاهر كان له رأي في مسألة الإعجاز التأثيري. وقد حاولت البحث فيما تحدث به عن هذا الوجه فوجدته عندما حاول التدليل على عجز العرب أمام القرآن، وذلك من خلال أقوالهم، وذكر أمثلة ثلاثة، هي:
أ ـ حديث الوليد بن المغيرة. وذكر فيه قوله عن القرآن: (والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل).
ب ـ حديث عتبة بن ربيعة: وذكر فيه قوله عن القرآن أيضاً: (إني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، وما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة).
ج ـ حديث إسلام أبي ذكر وأخيه أنيس، وقوله عن القرآن كلاماً قريباً من هذا.
وهذه الأمثلة الثلاثة التي ساقها الجرجاني يدلل بها على حال العرب العاجزة أمام القرآن لتدل على أنه يرى الإعجاز التأثيري من أهم وجوه الإعجاز القرآني. وذلك من وجهين:
١ ـ إن كل مَن تحدث عن إعجاز القرآن من السابقين له أو اللاحقين عليه وأشار إلى هذا الوجه إشارة واضحة ـ كالخطابي ـ مثلاً ـ، أو غير واضحة ـ كالباقلاني ـ إلا واستشهد بها، لدلالتها على مدى أثر القرآن في نفس من سمعه أو قرأه.


الصفحة التالية
Icon