يقول الدكتور الخطيب: (إن كلمات القرآن التي كانت على فم الناس، كان لها رحلة إلى الملأ الأعلى من الأرض إلى السماء من أفواه الناس إلى عالم الروح، والحق والنور، وهناك في هذا العالم ـ عالم الروح والحق والنور ـ عاشت تلك الكلمات دهراً طويلاً بين ملائكة، وولدان، وحور، فنفضت عليها هذه الحياة الجديدة روحاً من روحها، وجلالاً من جلالها، ونوراً من نورها، حتى إذا أذن لها الحكيم الخبير أن تعود أدراجها إلى الأرض وتلقى بأفواه الناس مرة أخرى، وتطرق أسماعهم، وتتصل بعقولهم وقلوبهم، لم ينكروا شيئاً من وجودها، وإن سرى إليهم من هذا الوجود ما يخطف الأبصار ويخلب الألباب، فالمؤمنون في شوق متجدد معه. وفي خير متصل منه، وفي عطاء موصول من ثمره، كلما مدوا أيديهم إليه قطفوا من أدبه أدباً عالياً، ومن علمه علماً نافعاً، ومن شريعته ديناً قيماً، وغير المؤمنين في عجب من أمره ودهش. يتناولونه بألسنة حداد، ويرمونه بسهام مسنونة، وبكيد عظيم. فما يصل إليه من كيدهم شيء).
إن العبارة السابقة يحاول فيها الخطيب ن يضع أيدينا على هذا السر الذي جعل لكلمات القرآن على مَن يسمعه من الأثر الواضح ما لا نجده مما نسمعه من كلام آخر، فكلمات القرآن قد رحلت إلى الملأ الأعلى حيناً من الزمن، أعطاها هذا الرحيل سراً يخطف الأبصار، ويخلب الألباب، ويجعل المؤمنين به في شوق دائم لسماعه، وغير المؤمنين في عجب ودهش من أمره.
ويقول الدكتور الخطيب ـ معلقاً على كلام الإمام الخطابي عن الإعجاز التأثيري للقرآن، والذي سبق لنا ذكره، والذي أثبتنا أنه وجه إعجاز القرآن عنده ـ :(وهذا الوجه من وجوه الإعجاز هو ـ فيما ترى ـ المعجزة القائمة في القرآن أبداً، الحاضرة في كل حين، وهي التي تسع الناس جميعاً، عالمهم وجاهلهم، عربيهم وأعجميهم، إنسهم وجنهم (قل أوحى إليَّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً).
ويعقب على قول السكاكي: (اعلم أن الإعجاز يدرك، ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن، تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة. وكما يدرك طيب النغم العارض للصوت، ولا يدرك تحصيله لغير ذي الفطرة السليمة) ـ بقوله ـ :(وما يقول السكاكي عن إعجاز القرآن ـ هنا ـ هو مقطع القول كله في هذا الأمر، إذ ليس الإعجاز الذي رآه الناس إلا روعة تملكهم، وإلا جلالاً يحيط بهم، وما كان لكلام أن يصور حقيقة الروعة، أو يمسك مواقع الجلال، إنها معان تدرك، تستشعر، ولا توصف! ولهذا فإن الناس مع القرآن على منازل ودرجات وحظوظ... ).
كان حديث الدكتور عن الإعجاز يرتكز بصورة أساسية على ما يحدثه القرآن من أثر في النفوس، كما رأينا ذلك واضحاً في مقارنته بين أثر كلام البشر وكلمات القرآن على النفوس البشرية المؤمنة بالقرآن، والمنكرة له على سواء.
إن آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، ومواقف الصحابة. بل وما في واقع الحياة البشرية في عصرنا الحالي وكل ما ذكره الدكتور تثبت وترصد مظاهر هذا الوجه من وجوه الإعجاز في حياة البشر وتؤكد اختياره له.
إن الدكتور ذهب إلى أكثر من الاختيار لوجه الإعجاز التأثيري للقرآن الكريم إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما أخذ يبين مزايا هذا الوجه دون سواه، فهذا الوجه يمتاز عن سائر وجوه الإعجاز بأنه:
أ ـ المعجزة القائمة في كل حين.
ب ـ أنها تسع الناس جميعاً عالمهم وجاهلهم.
ج ـ أنها تسعهم بكل لغاتهم، عربيهم وعجميهم.
د ـ أنها لا تقتصر على الإنس وحدهم، بل وتسع الجن أيضاً.
٥ ـ الشيخ/ محمد الغزالي السقا (ت ١٤١٦هـ ) ورأيه في الإعجاز التأثيري:
في كتابه (نظرات في القرآن) يعقد الشيخ/ الغزالي فصلاً كاملاً عن الإعجاز في القرآن الكريم، ويرى فيه أن إعجاز القرآن يبرز في وجوه ثلاثة: الإعجاز النفسي، والإعجاز العلمي، والإعجاز البياني.
ويمكن أن نفهم حديث الإمام الغزالي عن الإعجاز النفسي ـ التأثيري في رأينا ـ متمثلاً في نقاط أربع:
١ ـ مكانة الإعجاز التأثيري.
٢ ـ تأثير القرآن في المؤمن والكافر.
٣ ـ من وسائل تأثير القرآن: تقديم الدليل المفحم على كل شبهة ـ تلوين الحديث ـ تصريف الأمثال، قهر برودة الإلف، تعرية النفوس، التغلب على مشاعر الملل.
٤ ـ موانع التأثر بالقرآن.
وحديث إمامنا عن الإعجاز النفسي (التأثيري) أتى مرسلاً، دالاً على سجية مؤلفه، يحمل في طواياه هذه النقاط السابقة التي حاولت استخلاصها من حديثه العذب الذي لا غنى لباحث في إعجاز القرآن عن مطالعته والارتواء من نبعه الفياض. ونتلمس النقطة الأولى أول حديث الإمام عن الإعجاز النفسي، فبعد أن يتحدث عما يعرض له القرآن من عقائد دينية وأحكام تشريعية، وحقائق علمية يقول:


الصفحة التالية
Icon