فسألوه أن يعفيهم من ذلك فأبى عليهم إلا أن يقرأوا عليهم شيئاً منه ليسمعه من لم يسمعه من الناس فيعرفوا فضل ما هم عليه من الهدى والعلم، فقرأوا عليه قوله :(والطاحنات طحناً والعاجنات عجناً والخابزات خبزاً واللاقمات لقماً إهالة وسمناً، إن قريشاً قوم يعتدون)، وقوله :(يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين) إلى غير ذلك من هذياناته، فقال أبو بكر رضي الله عنه : ويحكم أين كان يذهب بعقولكم ؟ والله إن هذا لم يخرج من إل ـ أي إله)[٤]
لقد أدرك الصدّيق رضي الله عنه بحسه المرهف وذوقه السليم النفسية التي خرجت منها العبارات والتراكيب وطريقة صياغتها والصبغة الخاصة بنفسية قائلها، إنها طبيعة بشرية وليست صادرة عن الخالق سبحانه وتعالى.
فإن الفرق بين القرآن العظيم وكلام البشر كالفرق بين الخالق سبحانه وتعالى وبين المخلوق.
المصدر : كتاب مباحث في إعجاز القرآن بقلم أ. د. مصطفى مسلم ١٤٣ ـ١٥٤
[١] " مناهل العرفان " للزرقاني ٢/١٩٩
[٢] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة ٧/١٥٣
[٣] انظر هذا وغيره من الأمثلة في كتاب " النبأ العظيم " للدكتور محمد عبد الله دراز ص ١٩
[٤] انظر تفسير ابن كثير ٢/٤١١.
==============
جملة وجوه إعجاز القرآن
نقلا عن كتاب إعجاز القرآن للإمام الباقلاني
ذكر أصحابنا وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز[١]:
أحدها : يتضمن الإخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر ولا سبيل لهم إليه. فمن ذلك ما وعد الله تعالى نبيه عليه السلام، أنه سيظهر دينه على الأديان، يقوله عز وجل :( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)[سورة التوبة]. وكان أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، إذا أغزى جيوشه عرَّفهم ما وعدهم الله، من إظهار دينه، ليثقوا بالنصر ويستيقنوا بالنجاح.
وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يفعل كذلك في أيامه، حتى وقف أصحاب جيوشه عليه، فكان سعد بن أبي وقاص، رحمه الله، وغيره من أمراء الجيوش، من جهته، يذكر ذلك لأصحابه، وبحرِّصهم به، ويوثق لهم، وكانوا يُلقَّون الظفر في متوجَّهاتهم، حتى فُتح في أيامه مرو الشاهجان، ومرو الرُّوذ، ومنعهم من العبور على جيحون، وكذلك فُتح في أيامه فارس كسرى، وكل ما كان يملكه ملوك فارس، بين البحرين من الفرات إلى جيحون، وأزال ملك الفرس، فلم يعد إلى اليوم ولا يعود أبداً، إن شاء الله تعالى، ثم إلى حدود إرمينية، وإلى باب الأبواب. وفتح أيضاً ناحية الشام، والأردن وفلسطين، وفسطاط مصر، وأزال ملك قيصر عنها، وذلك من الفرات إلى بحر مصر، وهو ملك قيصر. وغزت الخيول في أيامه على عمّورية، فأخذ الضواحي كلها، ولم يبق منها إلا ما حجز دونه بحر، أو حال عنه جبل منيع، أو أرض خشنة، أو بادية غير مسلوكة.
وقال الله عز وجل: (قل للّذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد)[آل عمران]، فصدق فيه.
وقال في أهل بدر:( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم )[الأنفال: ٧]، ووفى لهم بما وعد.
وجميع الآيات التي يتضمنها القرآن، من الإخبار عن الغيوب، يكثر جداً، وإنما أردنا أن ننبه بالبعض على الكل.
والوجه الثاني: أنه كان معلوماً من حال النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان أمياً لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ.
وكذلك كان معروفاً من حاله أنه لم يكن يعرف شيئاً من كتب المتقدمين، وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم. ثم أتى بجمل ما وقع وحدث، من عظيمات الأمور ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام، إلى حين مبعثه، فذكر في الكتاب، الذي جاء به معجزة له: قصة آدم عليه السلام، وابتداء خلقه، وما صار أمره إليه من الخروج من الجنة، ثم جملاً من أمر ولده وأحواله وتوبته، ثم ذكر قصة نوح عليه السلام، وما كان بينه وبين قومه، وما أنتهى إليه أمرهم، وكذلك أمر إبراهيم عليه السلام، إلى ذكر سائر الأنبياء المذكورين في القرآن، والملوك والفراعنة الذين كانوا في أيام الأنبياء، صلوات الله عليهم.
ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه، إلا عن تعلم، وإذ كان معروفاً أنه لم يكن ملابساً لأهل الآثار وحملة الأخبار، ولا متردداً إلى التعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي. ولذلك قال عزَّ وجل (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لأرتاب المبطلون)[العنكبوت]، وقال:(وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست)[الأنعام].
وقد بينا أن من كان يختلف إلى تعلم علم، ويشتغل بملابسة أهل صنعة، لم يخف على الناس أمره، ولم يشتبه عندهم مذهبه، وقد كان يعرف فيهم من يحسن هذا العلم، وإن كان نادراً، وكذلك كان يعرف من يختلف إليه للتَّعلُم، وليس يخفى في العرف عالم كل صنعة ومتعلمها، فلو كان منهم لم يخف أمره.
والوجه الثالث: أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناهٍٍ في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه. والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة، ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل ونكشف الجملة التي أطلقوا.


الصفحة التالية
Icon