فالذي يشتمل عليه بديع نظمه، المتضمن للإعجاز وجوده:
١. منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه، وتباين مذاهبه، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به، ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد. وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم، تنقسم إلى أعاريض الشعر، على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم على أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالاً، فتطلب فيه الإصابة والإفادة، وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع، وترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلاً في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل [فيه]، ولا يتصنع له. وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق.
ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من السجع، ولا فيه شيء منه، وكذلك ليس من قبيل الشعر، لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع، ومنهم من يدعي فيه شعراً كبيراً، والكلام عليهم يذكر بعد هذا الموضع.
فهذا إذا تأمله المتأمل تبين ـ بخروج عن أصناف كلامهم، وأساليب خطابهم ـ أنه خارج عن العادة، وأنه معجز، وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميٌّز حاصل في جميعه.
٢. ومنها أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة، والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطول، وعلى هذا القدر. وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويشملها ما نبديه من التعمل والتكلف والتجوز والتعسف. وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسباً في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به، ففال عزَّ من قائل:( الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله )[الزمر: ٢٣]، وقوله :( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً )[النساء: ٨٢]. فأخبر سبحانه أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت، وبأن عليه الاختلال. وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره، فتأمله تعرف الفصل.
٣. وفي ذلك معنى ثالث: وهو أن عجيب نظمه، وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها، من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وأعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة، وشِيم رفيعة، وسير مأثورة، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها. ونجد كلام البليغ الكامل والشاعر المفلق، والخطيب المصقع، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور.
فمن الشعراء من يجوّد في المدح دون الهجو.
ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح.
ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين.
ومنهم من يجود في التأبين دون التقريظ.
ومنهم من يغرب في وصف الإبل أو الخيل، أو سير الليل، أو وصف الحرب، أو وصف الروض، أو وصف الخمر، أو الغل، أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر ويتناوله الكلام، ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وبزهير إذا رغب. ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام.
ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ، رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه، ووقف دونه، وبان الاختلاف على شعره، ولذلك ضرب المثل بالذين سميتهم، لأنه لا خلاف في تقدّمهم في صنعة الشعر، ولا شك في تبريزهم في مذهب النظم. فإذا كان الاختلال يتأتى في شعرهم، لاختلاف ما يتصرفون فيه، استغنينا عن ذكر من هو دونهم، وكذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب والرسائل ونحوها. ثم نجد من الشعراء من يجوّد في الرجز، ولا يمكنه نظم القصيد أصلاً، ومنهم من ينظم القصيد، ولكن يقصر[تقصيراً عجيباً، ويقع ذلك من رجزه موقعاً بعيداً، ومنهم من يبلغ في القصيدة الرتبة العالية، ولا ينظم الرجز، أو يقصر] فيه مهما تكلفه أو تعلمه.
ومن الناس من يجود في الكلام المرسل، فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصاناً بيّناً، ومنهم من يوجد بضد ذلك.


الصفحة التالية
Icon