٩. ومعنى تاسع: وهو أن الحروف التي بني عليها كلام العرب تسعة[١٤]وعشرون حرفاً، وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة، وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، وهو أربعة عشر حرفاً، ليدل بالمذكور على غيره، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم.
والذي تنقسم إليه هذه الحروف على ما قسمه أهل العربية، وبنوا عليها وجوههاً أقسام، نحن ذاكروها:
فمن ذلك أنهم قسموها إلى حروف مهموسة، وأخرى مجهورة.
فالمهموسة منها عشرة: وهي الحاء، والهاء، والخاء، والكاف، والشين، والثاء، والفاء، والصاد، والسين.
وما سوى ذلك من الحروف فهي مجهورة.
وقد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور.
وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء، لا زيادة ولا نقصان.
" المجهورة "معناه: أنه حرف أشبع الاعتماد في وموضعه ومنع أن يجري معه [النفس] حتى ينقضي الاعتماد ويجري الصوت.
" والمهموس ": كل حرف أضعف الاعتماد في موضعه حتى جرى معه النفّس. وذلك مما يحتاج إلى معرفته لتبنى عليه أصول العربية.
وكذلك مما يقسمون إليه الحروف، يقول إنها على ضربين : أحدهما حروف الحلق، وهي ستة أحرف : العين، والحاء، والمهموزة، والهاء، والخاء، والغبن.
والنصف [الآخر] من هذه الحروف مذكورة في جملة الحروف التي تشتمل عليها الحروف المثبتة في أول السورة، وكذلك النصف من الحروف التي ليست بحروف الحلق.
وكذلك تنقسم هذه الحروف إلى قسمين آخرين: أحدهما حروف غير شديدة، وإلى الحروف الشديدة، وهي التي تمنع الصوت أن يجري فيه، وهي الهمزة، والقاف والكاف والجيم والظاء والذال والطاء والباء،
وقد علمنا أن نصف هذه الحروف أيضا هي مذكرة في جملة تلك الحروف التي بنى عليها تلك السورة.
ومن ذلك الحروف المُطبقة، وهي أربعة أحرف، وما سواها منفتحه، فالمطبقة: الطاء والظاء، والصاد، والضاد.
وقد علمنا أن نصف هذه [الحروف] في جملة الحروف المبدوء بها في أوائل السور.
وإذا كان القوم ـ الذين قسموا في الحروف هذه الأقسام لأغراض لهم في ترتيب العربية وتنزيلها بعد الزمان الطويل من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، رأوا مباني اللسان على هذه الجهة، وقد نبه بما ذكر في أوائل السور على ما لم يذكر، على حد التصنيف الذي وصفنا ـ دل على أن وقوعها الموقع الذي يقع التواضع عليه، بعد العهد الطويل، لا يجوز أن يقع إلا من الله عزّ وجلّ، لأن ذلك يجري مجرى علم الغيوب.
وإن كان إنما تنبهوا على ما بنى عليه اللسان في أصله على ما بنى عليه اللسان في أصله ولم يكن لهم في التقسيم شيء وإنما التأثير لمن وضع أصل اللسان. فذلك أيضاً من البديع الذي يدل على أن أصل وضعه وقع موقع الحكمة التي يقصر عنها اللسان.
فإن كان أصل اللغة توقيفاً فالأمر في ذلك أبين، وإن كان على سبيل التواضع فهو عجيب أيضاً، لأنه لا يصح أن تجتمع هممهم المختلفة على نحو هذا إلا بأمر من عند الله تعالى. وكل ذلك يوجب إثبات الحكمة في ذكر هذه الحروف على حد يتعلق به الإعجاز من وجه.
وقد يمكن أن تعاد فاتحة كل سورة لفائدة تخصها في النظم، إذا كانت حروفاً، كنحو (الم)، لأن الألف المبدوء بها هي أقصاها مطلعاً، واللام متوسطة، والميم متطرفة، لأنها تأخذ في الشفة، فنبه بذكرها على غيرها من الحروف، وبين أنه إنما أتاهم بكلام منظوم مما يتعارفون من الحروف التي تتردّد بين هذين الطرفين.
ويشبه أن يكون التصنيف وقع في هذه الحروف دون الألف، لأن الألف قد تلغى، وقد تقع الهمزة وهي موقعاً واحداً.
١٠. ومعنى عاشراً: وهو أنه سبيله، فهو خارج عن الوحشيّ المستكرّه، والغريب المستنكّر، وعن الصنعة المتكلّفة. وجعله قريباً إلى الأفهام، يبادِرُ معناه لفظه إلى القلب، ويسابق المغزى منه عبارته إلى النفس. وهو مع ذلك ممتنع المطلب، عسير المتناول، غير مطمع مع قربه في نفسه، ولا مُوهمٍ مع دنوّه في موقعه أن يُقدّر عليه أو يُظفر به.
فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذّل، والقول المسفسف، فليس يصحُّ، أن تقع فيه فصاحةٌ أو بلاغة، فيطلب فيه الممتنع، أو يوضع فيه الإعجاز.
ولكن لو وضع في وحشيّ مستكره، أو غمر بوجوده الصنعة، وأطبق بأبواب التعسف والتكلف: لكان لقائل أن يقول فيه ويعتذر، أو يعيب ويقرع.
ولكنه أوضح منارة وقرَّب منهاجه، وسهّل سبيله، وجعله في ذلك متشابهاً متماثلاً، وبيّن مع ذلك إعجازهم فيه.
وقد علمت أن كلام فصحائهم وشعر بلغائهم لا ينفك من تصرف في غريب مستنكر، أو حشيّ مستكره، ومعان مستبعدة. ثم عدولهم إلى كلام مبتذّل وضيع لا يوجد دونه في الرتبة، ثم تحوّلهم إلى كلام معتدل بين الأمرين، متصرف بين المنزلتين.
فمن شاء أن يتحقق هذا نظر في قصيدة أمرؤ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
ونحن نذكر بعد هذا على التفصيل ما تتصرف إليه هذه القصيدة ونظائرها ومنزلتها من البلاغة، ونذكر وجه فوت نظم القرآن محلها، على وجه يؤخذ باليد، ويُتناول من كثب، ويُتصوَّر في النفس كتصور الأشكال.