(أ ) فقد نحى القرآن الكريم عن اللغة التقعير في الكلام والغريب والألفاظ الحوشية الثقيلةعلى السمع، وأن من يتأمل النثر أو الشعر الجاهلي يرى كثيراً من الكلمات الحوشية، ومن ذلك: " جحيش"، و" مسشزرات"، و" جحلنجح"، و " البخصات "، و " الملطاط "، وغير ذلك كثير. ومن ذلك أيضاً ما رواه القالي في أماليه لأبي محلم الشيباني في أواخر القرن الثاني من كتاب إلى بعض الحذائين في نعل.. قال هذا المتقعر: (دنها، فإذا همت تأتدن، فلا تخلها تمرخد، وقبل أن تقفعل، فإذا ائتدنت فامسحها بخرقة غير وكيلة، ولا جشيّة، ثم امعسها معساً رقيقاً، ثم سن شفرتك، وأمهها فإذا رأيت عليها مثل الهبوة فسن رأس الأزميل)الخ.
(ب ) نحي القرآن الكريم أيضاً كثيراً من الألفاظ التي تعبر عن معان لا يقرها الإسلام ومن ذلك:
١. " المرباع " : وهو ربع الغنيمة إلى الذي كان يأخذه الرئيس في الجاهلية.
٢. " النشيطة ": وهي ما أصاب الرئيس قبل أن يصير إلى القوم، أو ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل بلوغ الموضع المقصود.
٣. " المكس " : وهو دراهم كانت تؤخذ بائعي السلع في الأسواق الجاهلية.
٤. قولهم للملوك :" أبيت اللعن ".
ومثل ذلك كثيراً يرجع إليه في بطون كتب التراث.
(٤) سعة انتشار اللغة العربية :
بنزول القرآن ودخول الناس في دين الإسلام أفواجاً من شتى بقاع الأرض، اتجه المسلمون من غير العرب إلى تعلم العربية، رغبة في أداء العبادات والشعائر الدينية بها، وقراءة القرآن بالعربية، لأن قراءة القرآن الكريم تعبد لله تعالى.. وبالتالي انتشرت اللغة العربية انتشاراً ما كان يتحقق لها بدون القرآن الكريم.
ثانياً: الفاصلة بين التناسق الصوتي ورعاية المعنى :
أود هنا ـ بدايةً ـ توضيح ملاحظة تتصل بأدب السلف من صالحي هذه الأمة، حيث أطلقوا على نهايات الآيات القرآنية تسمية (رءوس الآيات)، تمييزاً لها عن مصطلحات الشعر والنثر، ففي الشعر نقول: صدر البيت وعجزه، وفي النثر نقول بداية الجملة ونهايتها، فبداية الآية عندهم كنهايتها : رأس، أي مستوى من الارتفاع والارتقاء لا ينتهي ولا يهبط أبداً، والوقف عند الرأس يشعر بأن آيات القرآن قمم يرقى القارئ إليها، وكلما مضى في القراءة ازداد رقياً، فهو صاعد أبداً، حيث يقال لقارئ القرآن :(أقرأ وارق، فأن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)..
ومعلوم أن رءوس الآيات توقيفية، أي كما جاءت بالتلقي عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والملاحظ في رءوس الآيات التناسب الصوتي الذي يلفت الانتباه وتستريح له الآذان إلى حد يأخذ بالنفس، ولعله كان أحد الأسباب التي جعلت الوليد يقول بعد سماعه القرآن: (إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة) وهما من حس اللسان وحسن الأذن. وإذا ما أحببت محاولة الكشف عن الظاهرة بأسلوب علمي، وذلك بتتبع أصوات الحروف والحركات التي تكوّن هذه الفواصل، بهذا التناسق الصوتي المبدع، فإننا نلاحظ التالي :
كثرة ورود الحركات، وبخاصة الطويلة [ حروف المد: الألف والواو، والياء]، بما لها من نغمات منتظمة تسيطر على لحن الكلام، يضاف إلى هذا كثرة ورود الصوامت المتوسطة(النون ـ الميم ـ الراء ـ الواو ـ الياء)، وهي قريبة ـ من الناحية الفيزيائية ـ إلى طبيعة الحركات، التي تسهم في خاصية التنغيم الشجيّ بشكل واضح. يدعم هذا ظواهر صوتية خاصة بالقرآن: المد والغنّة. وكل هذه العناصر الصوتية لا تكون بهذا التناسب الفريد في غير القرآن من فنون الشعر والنثر.
سؤال اعتراضي : هل هذا التناسب الصوتي هو من قبيل السجع، حيث يتوالى الكلام المنثور على حرف واحد، ليكتسب النثر ضرباً من الموسيقى والنغم؟ وهل هو من قبيل القافية في الشعر؟
والجواب: لا هذا ولا ذالك، فالفاصلة في القرآن ليست على وتيرة واحدة، كما هو الحال في كل من السجع والتقفية، فهي لا تلتزم شيئاً من ذلك، حيث تجري في عدد من آيات القرآن على نمط، ثم يتحول عنه إلى نمط آخر، ومن خلال جريها على نمط واحد، فأغلب ما تقوم عليه هو حرف المد.
يقول الله تعالى :(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴿١﴾ بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ﴿٢﴾ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴿٣﴾ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ﴿٤﴾ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ﴿٥﴾ أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ) (ق/١_٦).
والفاصلة قيمة صوتية ذات وظيفة دلالية، ورعايتها تؤدي إلى تقديم عنصر أو تأخيره، ليس فقط رعاية للتناسق الصوتي، بل رعاية للمعنى أيضاً، وهذا هو الإعجاز.
الأمثلة :(إياك نعبد وإياك نستعين)(الفاتحة/٥)، فإن قلت: لم قدم العبادة على الاستعانة؟ أجابك اللغويون أصحاب الحس المرهف، وعلى رأسهم الزمخشري، حيث قال :(هو من تقديم العلة على المعلول).
وقال أبو السعود: (هو من باب تقديم الشرف).