الناحية الأولى: وجود لولا التي تعني أن أمر (الهمّ) لم يحدث أصلاً. فقولنا: لولا المطر يبس الزرع. لا يعني أن الزرع قد يبس بحال من الأحوال!؟
وقوله تعالى (وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) يعني أيضاً أن الهم لم يحدث أصلاً.
وقد ذهب بعض النحاة إلى أن جواب لولا في الآية محذوف، وما قبلها ليس جواباً، إذ لا يصح أن يأتي جواب لولا قبلها. وقد خالف نحاة آخرون هذا الرأي.
وعلى أية حال نقول: إنما حذف جواب لولا – إن اتفقنا مع أصحاب هذا الرأي – لدلالة ما قبلها عليه، ومن ثم فالمحذوف يحمل الدلالة ذاتها، وهذا يتفق والمعنى الذي نذهب إليه... بأن الهم لم يحدث من جانب سيدنا يوسف.
أما الناحية الثانية: فهي مجيء فعل (الهمّ) في قوله تعالى (وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) دون توكيد، على غير ما جاء به الفعل المنسوب إلى امرأة العزيز (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ)، إذ جاء مؤكداً كما ذكرنا آنفاً، وهذا يدل على أن الأمرين غير متماثلين، وإلا فما الدلالة التي يحملها توكيد الفعل الأول، وعدم توكيد الفعل الثاني إن كان الفعلان متساويين.
ولما استبقا الباب، ووجدا العزيز لديه بادرت امرأة العزيز فـ (قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
نلاحظ أن كلام امرأة العزيز هنا لم يأت مؤكداً، على الرغم من أن الموقف يتطلب ذلك، فأية دلالة يحملها هذا الأمر!؟
إذا كان الكلام المؤكد يراد منه إزالة التردد أو الإنكار من نفس المخاطب، فإن الأمر عند العزيز لم يدخل بعد حيز التفكير حتى يشكك فيما يسمع أو ينكره، فأرادت امرأته أن تبادره بقولمصبوغ بصبغة الحقيقة الواقعة، بلسان الواثق من نفسه. ولو جاءت – في قولها - بمؤكدات لوضعت نفسها في موضع المتهم المدافع عن نفسه... وهي لم ترد ذلك، بل أرادت وضع نفسها في موضع المدّعي، لتجعل يوسف (عليه السلام) في موضع المتهم الذي يضطر إلى أساليب التوكيد- على اختلافها- دفاعاً عن نفسه، وردّاً للتهمة، ونفياً لها... فالبيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر.
ولعل امرأة العزيز لم تكن تحفل بموقف زوجها من الأمر، ولا يهمها إن اقتنع ببراءتها أملا، فهي لا تحتاج والحالة هذه إلى توكيد الأمر لدفع الشبهة لدى زوجها (إن وجدت).
ودليلنا على ذلك أن امرأة العزيز عادت إلى مراودة يوسف عن نفسه أمام جمع من النسوة دون أن تقيم لزوجها وزناً أو تحسب له حساباً، ولو كانت تخشاه لما أقدمت على ذلك.
وعلى أيّ وجه كان الأمر، فإن سيدنا يوسف (عليه السلام) (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي) هكذا دون توكيد، فلم يضع نفسه في موقف المتهم المدافع عن نفسه، ولم يأت جوابه بنفي الأمر الذي اتهمته به، فلم يقل مثلاً: (لم أرد بأهلك سوءاً) وإنما ردّ الاتهام بمثله (من وجهة نظر العزيز)، وأجاب بلهجة واثقة (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي).
الطرفان إذاً امرأة العزيز ويوسف (عليه السلام) كل منهما يتهم الآخر، وليس ثمة بيّنة إلا قميص يوسف الذي قُدَّ من دبر. لكن الاحتكام إلى هذا الأمر لو جاء على لسان يوسف (عليه السلام) لكان رأيه في معرض المدافع عن نفسه، وقد لا يُقبل اقتراحه هذا فـ (شَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا ) وجاءت شهادته نقضاً لادعائها، وتثبيتاً لقول يوسف (عليه السلام) وتنزيها له مما اتهم به بهتاناً وزوراً.
وتعود امرأة العزيز إلى ما عزمت على فعله، وعلى مرأى ومسمع النسوة اللواتي كنَّ يلمنها على مراودتها يوسف عن نفسه (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ)
انظر إلى توكيدها أمر مراودة يوسف عن نفسه (لَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ).
وقد جاء هذا التأكيد بعد إدراكها أن النسوة قد رأين في حُسْنِ يوسف عذراً مقبولاً لما أقدمت على فعله، فلم يعد ثمة حرج إذاً في توكيدها الإقدام على هذا الأمر.
ثم تقول (وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ) لقد حمل كلامها تهديداً ووعيداً، وجاء حافلاً بالمؤكدات التي تصور عزمها على إنفاذ تهديدها فأكدت بـ (لئن) الدالة على قسم محذوف قبلها، وباللام ونون التوكيد الثقيلة في (ليسجننّ)، واللام ونون التوكيد الخفيفة في (ليكونن).
رأى بعض النحاة أن مجيء (ليسجننّ) بنون التوكيد الثقيلة، و(ليكونن) بنون التوكيد الخفيفة معناه أن حرصها على سجنه كان أكبر من حرصها على إذلاله، والأمر فيما نرى يحتمل وجهاً آخر والله أعلم:
لقد أكدت امرأة العزيز بنون التوكيد الثقيلة ما هي قادرة على فعله، أي سجن يوسف(عليه السلام)، أمّا الذل والصَّغار فأمران معنويان لا يملكهما إلا الله سبحانه وتعالى. والإذلال أمر لا يخرج عن كونه مجرد احتمال، فكيف لها أن تؤكد ما لا قدرة لها عليه، ولا بيدها حدوثه...!؟
ولنتأمل فيما آلت إليه الأمور...