ثم انظر إلى علاقة قوله: (وتأكلون التراث) بقوله: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة) وأنه كما يأكل ينبغي أن يطعم الآخرين، فانظر إلى قوة المناسبة وجمال الارتباط. وقد انتبه المفسرون ـ رحمهم الله ـ إلى علاقة هذه السورة بما قبلها.
جاء في (البحر المحيط): "لما ذكر تعالى ابتلاءه للإنسان بحالة التنعيم، وحالة التقدير وذكر من صفاته الذميمة ما ذكر وما آل إليه حاله وحال المؤمن أتبعه بنوع من ابتلائه ومن حاله السيئ، وما آل إليه في الآخرة"[١].
وجاء في (روح المعاني): "ولما ذم سبحانه فيما قبلها من أحب المال، وأكل التراث أكلاً لما، ولم يحض على طعام المسكين، ذكر جل وعلا فيها الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة، وإطعام في يوم ذي مسغبة. وكذا لما ذكر ـ عز وجل ـ النفس المطمئنة هناك ذكر سبحانه بعض ما يحصل به الاطمئنان"[٢].
ثم انظر من ناحية أخرى، كيف أن هذه السورة ـ أعني سورة البلد ـ استوفت عناصر البلاغ والإرسال، فقد ذكرت موطن الرسالة، والرسول، والمرسل إليهم، والرسالة. فقد ذكرت (مكة) وهي المرادة بقوله: (بهذا البلد)، والرسول: وهو المراد بقوله: (وأنت حل بهذا البلد) وذكرت المرسل إليه وهو (الإنسان) ويدخل فيه أيضاً: (الوالد وما ولد)، وذكرت الرسالة، وهي الإيمان والعمل الصالح، وهو ما ذكرته من فك الرقبة ونحوه من الأعمال الصالحة. وذكرت أصناف الخلق بالنسبة للاستجابة إلى الرسالة، وهم أصحاب الميمنة الذين اقتحموا العقبة وأصحاب المشأمة، وهم الكفرة. فانظر أي عموم واستيفاء وشمول في هذه السورة المباركة؟
(لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد).
لقد أقسم الله تعالى بما ذكر "على أن الإنسان خلق مغموراً في مكابدة الشدائد والصعاب"[٣].
فقد أقسم سبحانه بالبلد الحرام في حال حلول الرسول ﷺ فيه وإقامته به يبلغ دعوته.
وقد تقول: ولم قال: (وأنت حل) ولم يقل: وأنت حال أو مقيم بهذا البلد.
والجواب: أنه جمع بالعدول إلى كلمة (حل) عدة معان في آن واحد كلها مرادة مطلوبة. ذلك أن كلمة (حل) تحتمل معاني عدة:
منها: أنها تأتي بمعنى الحال والمقيم[٤].
وقالوا: إن المقصود، تعظيم المقسم به، وهو أنه لما حل الرسول بمكة جمعت شرفين، شرفها هي الذي شرفها الله به، وشرف الرسول فازدادت تعظيماً على تعظيم وشرفاً على شرف، واستحقت بذلك القسم.
جاء في (البحر المحيط): "إنه تعالى أقسم لما جمعت من الشرفين شرفها بإضافتها إلى الله تعالى، وشرفها بحضور رسول الله ﷺ، وإقامته فيها فصارت أهلاً لأن يقسم بها"[٥].
وجاء في (تفسير البيضاوي): "أقسم سبحانه بالبلد الحرام، وقيده بحلوله عليه السلام فيه، إظهاراً لمزيد فضله وإشعاراً بأن شرف المكان بشرف أهله"[٦].
وجاء في (التبيان في أقسام القرآن): "إنه إذا كان الحل من الحلول، فهو متضمن لهذا التعظيم مع تضمنه أمراً آخر، وهو الإقسام ببلده المشتمل على رسوله وعبده، فهو خير البقاع، وقد أشتمل على خير العباد. فجعل بيته هدى للناس ونبيه إماماً وهادياً لهم، وذلك من أعظم نعمه وإحسانه إلى خلقه"([٧]).
"وقيل: هو نفي للقسم. والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه"[٨].
ومن معاني (الحل): أنها تأتي بمعنى اسم المفعول، أي: مستحل، على هذا يكون المعنى: وأنت مستحل قتلك لا تراعى حرمتك في هذا البلد الحرام الذي يأمن فيه الناس على دمائهم وأموالهم والذي يأمن فيه الطير والوحش.
جاء في (الكشاف): "ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك، مستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في عير الحرم.
عن شرحبيل: يحرمون أن يقتلوا بها صيداً ويعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك.
وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة وتعجيب من حالهم في عداوته.
أو سلى رسول الله ﷺ بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد"[٩].
وجاء في (روح المعاني): "وفيه تحقيق مضمونه بذكر بعض المكابدة على نهج براعة الاستهلال، وإدماج لسوء صنيع المشركين، ليصرح بذمهم على أن الحل بمعنى المستحل بزنة المفعول الذي لا يحترم، فكأنه قيل: ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمته يستحل بهذا البلد ولا يحترم كما يستحل الصيد في غير الحرم… وفي تأكيد كون الإنسان في كبد، بالقسم تثبيت لرسول الله ﷺ وبعث على أن يطامن نفسه الكريمة على احتماله، فإن ذلك قدر محتوم"[١٠].
وجاء في (التبيان في أقسام القرآن): "وفي الآية قول ثالث، وهو أن المعنى: وأنت مستحل قتلك وإخراجك من هذا البلد الأمين الذي يأمن فيه الطير والوحش والجاني، وقد استحل قومك فيه حرمتك، وهم لا يعضدون به شجرة ولا ينفرون به صيداً… وعلى كل حال فهي جملة اعتراض في أثناء القسم موقعها من أحسن موقع وألطفه.
فهذا القسم متضمن لتعظيم بيته ورسوله"[١١].
ومن معاني (الحل) أنها تأتي بمعنى الحلال ضد الحرام، أي: "وأنت حلال بهذا البلد يحل لك فيه قتل من شئت. وكان هذا يوم فتح مكة"[١٢].