ويحتمل أن هذا الإنسان فرداً كان أم صنفاً لا يقتحم العقبة في المستقبل، لأن من كان هذا وصفه لا يقتحم العقبة، إلا إذا آمن وغير من حاله. فهو لم يقتحم العقبة في الماضي ولا يقتحمها في المستقبل، بل هو باق على حاله على وجه الدوام.
ويحتمل أن هذا التغبير دعاء على هذا الصنف أو الشخص بألا يقتحم العقبة كما في قوله تعالى: (ويلٌ لكل همزة لمزة) وقوله: (قاتلهم الله أنى يؤفكون) [التوبة] فإن من كان هذه صفته لا يستحق الدعاء له بالخير.
كما يحتمل الاستفهام المراد به التنديم والتوبيخ على ما فرط والحض على الإنفاق بمغنى "افلا اقتحم العقبة" وقد حذفت منه الهمزة ونحو هذا وارد في القرآن الكريم والفصيح من كلام العرب، فقد جاء فيه قوله تعالى: (وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين) [الأعراف] بدلالة قوله تعالى: (قالوا لفرعون أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين) [الشعراء] ونحو قول الشاعر:
قالوا: تحبها؟ قلت: بهراً أي: أتحبها؟ وقول الكميت:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب
أي: أوذو الشيب يلعب؟
وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فقد جمع هذا التعبير عدة معان في لآن واحد: المضي والاستقبال والتوبيخ والحض والدعاء. فهو أخبر أنه لن يقتحم العقبة فيما مضى من عمره، وأنه لا يقتحمها في المستقبل، وأنه وبخه على ذلك، ودعا عليه بعدم اقتحامها.
فانظر كيف جمع هذا التعبير هذه المعاني، وكلها مرادة مطلوبة وأنه لو جاء بأي حرف آخر غير (لا) لم يفد هذه المعاني الكثيرة المتعددة. فهو لو قال: (ما اقتحم العقبة) أو (لم يقتحم العقبة) لم يفد إلا الإخبار عنه في الماضي. فانظر كيف وسعت (لا) المعنى وجمعت معاني عدة في تعبير واحد؟
(وما أدراك ما العقبة)
هذا الأسلوب من أساليب التفخيم والتعظيم والتهويل ونحوه قوله: (وما أدراك ما القارعة) وقوله: (وما أدراك ما الحاقة) و(وما أدراك ما الحطمة) تعظيماً لأمرها ثم فسر العقبة بعد ذلك بقوله: (فك رقبة أو إطعام).
(فك رقبة)
"وفك الرقبة: تخليصها من رق أو غيره… وفي الحديث: "أن رجلاً قال لرسول الله ﷺ : دلني على عمل يدخلني الجنة، فقال: تعتق النسمة وتفك الرقبة. قال: أوليسا سواء؟ قال: لا. إعتاقها: أن تنفرد بعتقها. وفكها: أن تعين في تخليصها من قود أو غرم"[٦٦].
وجاء في (فتح القدير): "كل شيء أطلقته، فقد فككته، ومنه فك الرهن، وفك الكتاب… والفك في الأصل حل القيد، سمي العتق فكاً، لأن الرق كالقيد وسمي المرقوق رقبة، لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته"[٦٧].
واختيار هذا التعبير يوحي بشدة حال المسترق، وكربه ومعاناته ومكابدته. والاسترقاق هو من أكثر أحوال المكابدة والمعاناة شدة. وارتباط الآية بقوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) ارتباط واضح بين.
(أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتمياً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة)
المسغبة: المجاعة[٦٨] وهي الجوع العام[٦٩] وليس الجوع الفردي.
والفرق بين المسغبة والسغب، أن السغب معناه: الجوع، والجوع قد يكون عاماً، وقد يكون خاصاً. أما المسغبة فهي عامة ولذا قيل: إن معناه "في يوم فيه الطعام عزيز"[٧٠].
وهذا مما يدل على شدة الكرب والضيق واللأواء، فالإطعام في هذا اليوم له شأنه فهناك فرق بين إطعام المسكين والطعام موفور والخلة مسدودة، والإطعام في وقت قلة الطعام وشحته والخوف من فقدانه والإمساك عن بيعه، فهذه عقبة كؤود من عقبات المجتمع، والإطعام في مثل هذا اليوم اقتحام لهذه العقبة أي اقتحام.
(يتيماً ذا مقربة)وهو اليتيم القريب في النسب ليجتمع له صدقة وصلة[٧١]. وذلك ليتفقد كل واحد أقرباءه المحتاجين ليتم التكافل والتراحم بينهم.
(أو مسكيناً ذا متربة)والمتربة مأخوذة من (ترب): "إذا افتقر، ومعناه: التصق بالتراب"[٧٢]. وذو المتربة: هو الذي مأواه المزابل[٧٣] وقيل "وهم المطروحون على ظهر الطريق قعوداً على التراب لا بيوت لهم"[٧٤] وهما شيء واحد.
وجاء بـ (أو) ولم يأت بالواو ذلك أن الواو تفيد معنى الجمع ومعناه: لو أتى بالواو لا يقتحم العقبة إلا إذا فك الرقبة، وأطعم هذين الصنفين جميعاً فإن أطعم صنفاً واحداً لم يقتحم العقبة. وهو غير مراد، بل المراد التنويع. والمقصود أن يطعم هذه الأصناف من الناس، اليتيم أو المسكين، على سبيل الاجتماع أو الانفراد.
وقد قدم فك الرقاب على إطعام اليتامى والمساكين إشارة إلى عظم الحرية في الإسلام وأن المطلوب أولاً تحرير الناس من العبودية والاسترقاق.
وانظر بعد ذلك ارتباط هؤلاء الأصناف بقوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) فهؤلاء من أشد الناس مكابدة ومعاناة. ثم انظر إلى ارتباط هؤلاء الأصناف بقوله: (يقول أهلكت مالاً لبداً) فقد أهلكها هذا القائل في غير محلها، فلم يطعم جائعاً ولم يفك رقبة.