أما اختيار الهمز، فله دلالته ذلك أن الهمزة حرف ثقيل شديد، وهي على كل حال أثقل من الواو[٨٤] فاختار الهمزة على الواو لثقلها وشدتها، لأن الموقف شديد وصعب، فهي المناسبة لثقل ذلك اليوم وصعوبته وشدته قال تعالى: (ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً) [الإنسان]، وإن النطق بها لثقيل، فإذا قال (مؤ) كان كأن الشخص يعاني من أمر ثقيل. فهي أنسب وأدل على الكرب والثقل من التسهيل والنطق بالواو.
وهو المناسب أيضاً لجو المكابدة والشدة والقوة في السورة. والله أعلم. د
أما السؤال الثالث وهو: لماذا لم يقل كما قال في سورة الهمزة: (في عمد ممددة) فذلك له أكثر من سبب، وكل تعبير هو أليق بمكانه من نواح عدة منها:
١ـ إنه توسع في سورة الهمزة في ذكر صفات المعذب وتوسع في ذكر العذاب، فقال: (ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالاً وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لنبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة في عمد ممدة)
فقال في ذكر صفات المعذب، أنه همزة لمزة، وأنه جمع مالاً وعدده، يحسب أن ماله أخلده، في حين لم يزد في سورة البلد على قوله: (والذين كفروا بأياتنا) ولما توسع في صفات المعذب توسع في ذكر عذابه، فقال: (كلا لنبذن في الحطمة وما أدراك)
فناسب ذلك ذكر الزيادة في سورة الهمزة دون سورة البلد.
٢ـ إنه ذكر في أول الهمزة (ويل لكل همزة لمزة) فدعا عليهم بالهلاك الدائم الذي لا ينقطع ورفع (الويل) يفيد الثبوت، فناسب الدلالة على الدوام، أن يقول: (إنها عليهم مؤصدة في عمد ممدة للدلالة على الاستيثاق من غلق الأبواب عليهم.
٣ـ ذكر في سورة الهمزة أن هذا الكافر يجمع المال ويعدده، ويحفظه فكما حفظ المال وجمعه وأغلق عليه الأبواب، واستوثق من حفظه أغلقت عليه أبواب جهنم واستوثق منها بأنها مدت عليها الأعمدة.
فناسب الاستيثاق من حفظ المال وإيصاد الأبواب عليه الاستيثاق، وإطباق الأبواب عليه في النار. في حين أنه ذكر في سورة (البلد) أنه أهلك مالاً لبداً فذلك أهلك المال وأنفقه، وهذا جمع المال وحفظه، فناسب ذكر الحفظ وشدة الاستيثاق في سورة الهمزة الاستيثاق من غلق باب عليه، والجزاء من جنس العمل.
٤ـ ذكر في سورة الهمزة أن هذا الكافر يحسب أن ماله أخلده في الدنيا وأبقاه، وأنه لا يفارقها، فعوقب بذلك بالخلود في النار، وإطباق أبوابها عليه والاستيثاق بالعمد الممدة عليها، للدلالة على خلوده في النار أبد الآبدين فحسبانه الخلود في الدنيا مقابل لحقيقة الخلود في النار فهناك ظن وهنا يقين وهناك خلود مظنون في الدنيا وهنا خلود واقع حقيقة في النار.
٥ـ ذكر في سورة الهمزة أن هذا الكافر يتعدى على الآخرين، فهو لم يكف أذاه عنهم، ولم ينلهم من خيره شيء، فهو يهمزهم ويلمزهم ويمنع خيره عنهم، فلم ينفق من ماله شيئاً فلما اعتدى على الآخرين وآذاهم انبغى له الحبس لتخليص الناس من شره وعدوانه.
والمحبوس تغلق عليه أبواب الحبس ويستوثق من إلاغلاقها وعدم فتحها لئلا يخرج منها فناسب ذلك زيادة الاستيثاق بالعمد الممددة على الأبواب لئلا تفتح في حين لم يذكر في سورة البلد سوى الكفر بآيات الله، ولم يذكر أنهم تعدوا على الآخرين.
٦ـ إن المعذبين في سورة الهمزة كفار وزيادة، فهم:
١ـ كافرون.
٢ـ يتعدون على الآخرين بالهمز واللمز والسخرية والتكبر.
٣ـ أنهم جمعوا الأموال ولم ينفقوها.
٤ـ يحسبون أن الأموال تخلدهم في الدنيا.
في حين لم يذكر في سورة البلد إلا الكفر.
فأولئك كفار وزيادة في العدوان، فاقتضى ذلك الزيادة في تعذيبهم وحبسهم.
فانظر كيف ناسب كل تعبير موطنه. ولو جعلت الزيادة في سورة البلد لم تحسن كما هو ظاهر.
وأما السؤال الأخير وهو : لماذا ذكر جزاء الكافرين ولم يذكر جزاء المؤمنين.
فالجواب عنه أن ذلك لمناسبة ما ذكر في أول السورة من خلق الإنسان في كبد، فلم يناسب ذلك ذكر النعيم وإنما الذي يناسبه ذكر الجحيم وما فيه من مشقة.
جاء في (روح المعاني): "وصرح بوعيدهم ولم يصرح بوعد المؤمنين، لأنه بما سيق له الكلام والأوفق بالغرض والمرام[٨٥]
ثم انظر بعد ذلك إلى هذه السورة المحكمة النسج، كيف وضعت تعبيراتها لتؤدي أكثر من معنى.
فـ (لا أقسم) تحتمل النفي والإثبات.
و(حل) تحتمل الحال والمستحل والحلال.
و(ووالد وما ولد) تحتمل العموم والخصوص من آدم وذريته أو إبراهيم وذريته أو الرسول وآبائه. وغير ذلك على وجه العموم.
و(الكبد) تحتمل المكابدة والمعاناة، وتحتمل القوة والشدة، وتحتمل استقامة الجسم واعتداله وغير ذلك.
و(أيحسب) تحتمل العموم والخصوص، فهي تحتمل كل إنسان، وتحتمل إنساناً معيناً تشير إليه الآية.
و(أهلكت مالاً لبداً) تحتمل أكثر من معنى، فهو قد يكون أنفقته في المفاخر والمكارم والمباهاة. وتحتمل الإنفاق في عداوة الرسول، وتحتمل غير ذلك. وتحتمل الكذب فلم ينفق شيئاً، وإنما هو ادعاء محض.
و(اللبد) تحتمل الجمع وتحتمل المفرد، فعلى الجمع تكون جمع (لبدة) كنقطة ونقط، وخطوة وخطى وعلى المفرد تكون صفة كحطم ولكع.