جاء في (تفسير فتح القدير): "وكرر الموصولات للدلالة على أن كل وصف من تلك الأوصاف لجلالته، يستحق أن يستقل بموصوف متعدد"[٤١].
ثم قال بعد ذلك:
(أولئك هم الوارثون)
فجاء بضمير الفصل والتعريف في الخبر، للدلالة على القصر، أي: هؤلاء الجامعون لهذه الأوصاف، هم الوارثون الحقيقيون وليس غيرهم ثم فسر هذا الإبهام ثم الإيضاح بعده من الفخامة ما فيه.
جاء في (الكشاف): (أولئك) الجامعون لهذه الأوصاف (هم الوارثون) الأحقاء بأن يسموا وراثاً دون عداهم ثم ترجم الوارثين بقوله: (الذين يرثون الفردوس) فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر"[٤٢].
ثم انظر إلى تقديم الجار والمجرور على الخبر، في قوله: (هم فيها خالدون*) للدلالة على القصر وتناسب ذلك مع التقديم في الأوصاف السابقة: في صلاتهم خاشعون، للزكاة فاعلون، لفروجهم حافظون، لأماناتهم وعهدهم راعون، فجازاهم من جنس عملهم، فإن أولئك الذين قصروا أعمالهم على الخير، قصر الله خلودهم في أعلى الجنة، وهو الفردوس، فلا يخرجون عنه إلى ما هو أدنى درجة منه، فكان خلودهم في الفردوس لا في غيره. والفردوس أعلى الجنة وأفضلها ومنه تتفجر أنهار الجنة كما جاء في الحديث.
ثم نأتي إلى سورة المعارج:
قال تعالى: (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿١٩﴾ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴿٢٠﴾ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿٢١﴾ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴿٢٢﴾ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴿٢٣﴾ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ﴿٢٤﴾ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿٢٥﴾ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿٢٦﴾ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ﴿٢٧﴾ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ﴿٢٨﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿٢٩﴾ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿٣٠﴾ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿٣١﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿٣٢﴾ وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ﴿٣٣﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴿٣٤﴾ أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ )[سورة المعارج].
قال تعالى:
(إن الإنسان خلق هلوعا)
بنى الفعل (خلق) للمجهول، ذلك أن المقام مقام ذم لا تكريم مقام ذكر جانب مظلم من طبيعة البشر. والله سبحانه لا ينسب الفعل إلى نفسه في مقام السوء والذم.
قال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن قويم) [التين] فنسب الفعل إلى ذاته في مقام المدح وقال: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم) [الأعراف].
وقال: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) [الأعراف]
في حين قال: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً) [النساء]
وقال: (إن الإنسان من عجل) [الأنبياء]
وقال: (إن الإنسان خلق هلوعاً) [المعارج]
والهلع فسره ربنا بقوله: (إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً)، فهو الجزع عند مس الشر والمنع عند مس الخير.
جاء في (الكشاف): "الهلع سرعة الجزع عند مس المكروه وسرعة المنع عند مس الخير و(الخير): المال والغنى و(الشر): الفقر، أو الصحة والمرض إذا صح الغني منع المعروف وشح بماله، وإذا مرض جزع وأخذ يوصي"[٤٣]
وجاء في (تفسير ابن كثير): "أي: إذا مسه الضر فزع وجزع وانخلع قلبه من شدة الرعب، وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير.
(وإذا مسه الخير منوعاً) أي: إذا حصلت له نعمة من الله، بخل بها على غيره، ومنع حق الله ـ تعالى ـ فيها"[٤٤].
وجاء في (فتح القدير): "قال في الصحاح: الهلع في اللغة: أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه أي: إذا أصابه الفقر والحاجة، أو المرض ونحو ذلك، أي كثير الجزع وإذا أصابه الخير من الغنى والخصب والسعة ونحو ذلك، فهو كثير المنع والإمساك"[٤٥].
والجزع ضد الصبر ونقيضه، وقد قابله الله بالصبر فقال: (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص) [إبراهيم] وجاء في (لسان العرب): "الجزوع ضد الصبور على الشر، والجزع نقيض الصبر وقيل: إذا كثر منه الجزع، فهو جزع وجزاع"[٤٦].
وقد بدأ بالشر قبل الخير، فقال: (إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً) وذلك لأن السياق يقتضي ذلك، فقد بدأت السورة بالعذاب، وهو قوله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع) وذكر قبل هذه الآية مشهداً من مشاهد العذاب، فقال: (يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه كلاً إنها لظى نزاعة للشوى).
فالمناسب إذن هو البدء بالشر، وهو الذي يقتضيه السياق وجو السورة فالإنسان خلق هلوعاً لا يصبر إذا م سه الشر بل يجزع وذكر الجزع ههنا وهو عدم الصبر مناسب لقوله تعالى في أوائل السورة: (فاصبر صبراً جميلاً) فهو يأمر نبيه بالصبر الجميل. والصبر طارد للجزع المقيت الذي طبع عليه الإنسان وتحرر منه من أراد الله له بالخير.
واستثنى من الاتصاف بصفة هذه بشقيها: الجزع والمنع للخير، من ذكرهم بعد هذه الآية بقوله: (إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون)