كيف سوَّى في هذه المماثلة بين ما بالطائر، وما به هو من الجوى ( وهو حرقة الشوق )، في حقيقة الجوى وماهيَّته! ثم شبَّه ما يخفيه ذلك الطائر من الجوى بما يخفيه هو، وشبه الذي يظهره الطائر من ذلك بالذي يظهره هو، ففرَّق بذلك التشبيه بين ما يخفيانه، وما يظهرانه من الجوى. فما يخفيانه منه يرجع إلى حقيقته وماهيَّته، وما يظهرانه منه يرجع إلى صورته؛ ولهذا استعمل لفظ المثل مع الأول دون الثاني.
ثم تأمل قول أحدهم:
وقتلى، كمِثْل جُذوعِ النَّخيل ** تَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ، مُنْهَمِر
كيف شبه القتلى في هذا التمثيل، وهم في ساحة المعركة، بمثل جذوع النخيل، التي اقتلعها السيل من جذورها؛ لأنه أراد أن جثث القتلى تشبه جثث جذوع النخيل في جهة، أو أكثر من جهات حقيقتها وماهيتها. ولو أراد أنها تشبهها في صفة أو أكثر، لوجب أن يقول: وقتلى كجذوع النخيل، بإسقاط لفظ المثل. ولو أراد المماثلة بينهما في تمام الحقيقة والماهيَّة، لكان ينبغي أن يقول: وقتلى مثل جذوع النخيل. وهذا غير جائز، لاختلافهما في الجنس.
ومما ورد من ذلك في النفي قول عمرو ابن كلثوم:
فما شرب الشراب كمثل عمرو **وما نال المكارم فأَصْبَحينا
وقول ابن الدُّمَيْنَة:
وليس كمثل اليأس يدفع صبوة ** ولا كفؤاد الصَّبِّ صادف مطمعًا
وعلى هذا ورد قوله تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "، فهو نفي لقول المشركين: مِثْلُه شيءٌ. أي: شيءٌ مِثْلُ الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا ! ألا ترى كيف مَثَّلوه سبحانه بخلقه، فجعلوا له أمثالاً وأندادًا، وهي أشياء، مع اعترافهم بأنه تعالى خالق الأشياء كلها ؟
روى عطاء عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال:”قدم وفد نجران، فقالوا: صف لنا ربك: أَمِنْ زُبُرْجُدٍ، أو ياقوتٍ، أو ذهبٍ، أو فضةٍ ؟ فقال: إن ربي ليس من شيء؛ لأنه خالق الأشياء، فنزل:" قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ "( الإخلاص: ١ ). قالوا: هو واحد، وأنت واحد. فقال:"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "( الشورى: ١١ ) “.
ولذلك، لما قال فرعون لموسى:" وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ "( الشعراء: ٢٣ )كالطالب لماهيته تعالى، لم يجب موسى- عليه السلام- إلا بتعريفه بأفعاله، فقال:" رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا "( الشعراء: ٢٤ )؛ لأن السؤال في حق الباري سبحانه وتعالى عن ماهيَّته وجنسه خطأ كبير؛ لأنه سبحانه لا جنس له فيذكر، ولا تدرك ذاته.
" لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ "(الأنعام: ١٠٣)
ولهذا عدل موسى- عليه السلام- إلى الجواب بالصواب، ببيان الوصف المرشد إلى معرفته جل وعلا.
فإذا ثبت أن الله تعالى لا تدرك ذاته، ولا تعرف ماهيَّته، وأنه ليس بشيء مما يتصورون؛ لأنه خالق الأشياء كلها، فكيف يجوز أن تمثَّل ذاته المقدسة بذوات الأشياء، وهي مغايرة لها تمام المغايرة في حقيقتها وماهيتها ؟
ومن شروط المماثلة- كما ذكرنا- أن تكون بين شيئين متفقين في الجنس، وإن اختلفت صفاتهما؛ ولذلك لا يجوز أن يقال في حقه عز وجل: شيءٌ مِثلُ الله. ولا أن يقال: ليس شيءٌ مِثْلَ الله؛ كما جاز أن يقال: زيد مِِثْلُ عمرو، وليس زيد مِثْلَ عمرو؛ لأن لزيد مِثْلاً في الواقع من جنسه يماثله في ذاته، وليس لله تعالى مِِثْلٌ في الواقع يماثله في ذاته، لا من جنسه، ولا من غير جنسه؛ ولهذا نهى الله عز وجل عن ضَرْب الأمثال له، فقال:
"فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ "( النحل: ٧٤ )
ولكن المشركين لم يتورَّعوا عن ضَرْبِ الأمثال لله جل وعلا؛ لاعتقادهم أنه سبحانه شيءٌ كباقي الأشياء، وأن ذاته الشريفة كذواتها، فجاء الرد عليهم بقوله تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ "
ولو قيل في الرَّدِّ عليهم: ليس مِِثْلَه شيءٌ. أو ليس كالله شيءٌ- كما قال المفسرون في تأويل الآية الكريمة- لكان ذلك اعترافًا منه سبحانه بأن له مِثْلاً في الواقع، يتفق معه في الجنس.
ولهذا لما أراد الله عز وجل أن ينفي عن ذاته المقدسة الشِّبْه والمِثْل، أتى بلفظ المِثْل، وأدخل عليه كاف التشبيه، ثم نفاهما معًا بـ" لَيْسَ "، فأصبح معنى الآية الكريمة: لا توجد ذات من ذوات الأشياء، تشبه ذات الله تعالى في جهة أو أكثر من جهاتها، فضلاً عن أن تماثلها؛ لأن نفيَ الشِّبْه يستلزم نفيَ المِثْل. وبهذا يظهر لك سر دخول الكاف على لفظ المِثْل في هذه الآية الكريمة.. فتأمله، وقِسْ عليه نظائره.
وللفخر الرازي كلام جيد في تأويل هذه الآية الكريمة، التي تاهت العقول في تأويلها؛ كما تاهت في ذاته سبحانه لاحتجابها بأنوار العظمة، وأستار الجبروت، أنقل منه قوله:” احتجَّ علماء التوحيد- قديمًا وحديثًا- بهذه الآية في نَفْيِ كونه تعالى جسمًا مركبًا من الأعضاء والأجزاء، وحاصلاً في المكان والجهة، وقالوا: لو كان جسمًا، لكان مِثْلاً لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال، والأشباه له؛ وذلك باطل بصريح قوله تعالى:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ".. “.


الصفحة التالية
Icon