وأما من حيث الأمن فهو البلد الآمن قبل الإسلام وبعده، دعا له سيدنا ابراهيم uبالأمن قبل أن يكون بلداً، وبعد أن صار بلداً فقال أولاً: "رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا (١٢٦)" البقرة، وقال فيما بعد: "رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا (٣٥)" إبراهيم، فهو مدعو له بالأمن من أبي الأنبياء. وقد استجاب الله سبحانه هذه الدعوة قال تعالى: "وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا (٩٧)" آل عمران، وقال: "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا (١٢٥)" البقرة
فـ (الأمين) على هذا (فعيل) للمبالغة بمعنى الآمن، ويحتمل أن تكون (الأمين) فعيلاً بمعنى مفعول، مثل جريح يمعنى مجروح وأسير بمعنى مأسور، أي: المأمون، وذلك لأنه مأمون الغوائل ٩
جاء في روح المعاني: "الأمين فعيل بمعنى فاعل أي الآمن، من أمُن الرجل بضمّ الميم أمانة فهو أمين.. وأمانته أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه.. وأما بمعنى مفعول أي: المأمون من (أمنه) أي: لم يَخَفْه، ونسبته إلى البلد مجازية. والمأمون حقيقة الناسُ أي: لا تخاف غوائلهم فيه، أو الكلام على الحذف والإيصال أي: المأمون فيه من الغوائل " ١٠
وجاء في البحر المحيط: "وأمين للمبالغة أي: آمنٌ مَنْ فيه ومن دخله وما فيه من طير وحيوان، أو من أمُن الرجل بضمّ الميم أمانة، فهو أمين كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه. ويجوز أن يكون بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل ". ١١
وقد تقول: ولم اختار لفظ (الأمين) على (الآمن) الذي تردد في مواطن أخرى من القرآن الكريم؟ قال تعالى: "أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧)" القصص، وقال: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ (٦٧)" العنكبوت
والجواب : أنه باختياره لفظ (الأمين) جمع معنيي الأمن والأمانة، وجمع معنى اسم الفاعل واسم المفعول، وجمع الحقيقة والمجاز، فهو أمين وآمن ومأمون، وهذه المعاني كلها مُرادة مطلوبة.
ثم انظر إلى جواب القسم وهو قوله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ).
كيف تناسب مع المُقسَم به تناسباً لطيفاً ولاءمه ملاءمة بديعة. فإنه أقسم بالرسالات على بداية الإنسان ونهايته ١٢ فقال: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ " وهذه بدايته، ثم قال: "ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ " وهذه نهايته.
"ثم لما كان الناس في إجابة هذه الدعوة فريقين منهم مَنْ أجاب ومنهم من أبى، ذكر حال الفريقين. فذكر حال الأكثرين وهو المردودون إلى أسفل سافلين ١٣ ( والآخرين وهم المؤمنون الذين لهم أجر غير ممنون.
ولما كانت الرسالات إنما هي منهج للإنسان وشريعة له، كان الجواب يتعلق بالإنسان طبيعة ومنهجاً، فذكر طبيعة الإنسان في قوله: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)" وذكر المنهج في قوله:"إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦)".
وفي هذه إشارة إلى أن المنهج لا بد أن يكون متلائماً مع الطبيعة البشرية غير مناقض لها وإلا فشل.
فكان الجواب كما ترى أوفى جواب وأكمله وأنسب شيء لما قبله وما بعده.
ثم انظر من ناحية أخرى إلى قوله تعالى: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)" فإنه أسند الخلق إلى نفسه ولم يبنه للمجهول، وذلك أنه موطن بيان عظيم قدرته وحسن فعله وبديع صنعه فأسند ذلك إلى نفسه، وهذا في القرآن خط واضح، فإنه في مثل هذا المقام وفي مقام النعمة والتفضّل يسند الأمر إلى نفسه، قال تعالى: "وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)" الأعراف.
وقال: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (٧٢) " يس
فانظر كيف أسند الخلق في مقام النعمة والتفضّل إلى ذاته في حين قال: "وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (٢٨)" النساء ببناء الفعل للمجهول لما كان القصد بيان نقص الإنسان وضعفه. وقال: "خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ (٣٧)" الأنبياء، وقال: "إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١)" المعارج.
فانظر إلى الفرق بين المقامين، وقد مرّ شيء من هذا في موطن سابق.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه أسند الخلق إلى نفسه لأن المقام مقام بيان منهج للإنسان، فأراد أن يبين أن واضع المنهج للإنسان هو خالق الإنسان ولا أحد غيره أعلم بما يصلح له وما هو أنسب له، ولو بنى الفعل للمجهول لم يفهم ذلك صراحة.