فههنا شَفيعٌ، ومُشَفَّعٌ، ومُشَفَّعٌ له، وشَفاعَةٌ. والشفاعةُ نوعان: حسنة، وسيئة. فالشفاعة الحسنة هي التي يُراعَى بها حق المسلم، فيُدفَع بها عنه شر، أو يُجلَب بها إليه خير، ابتغاء مرضاة اللهتعالى. وأما الشفاعة السيئة فهي التي تكون في معصية الله ابتغاء لجاه أو غيره، وأعظمُها جُرْمًا ما كان في حَدٍّ من حدود الله تعالى.
وورد في الخبر عن النبي ﷺ قوله:" من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى، فقد ضادَّ الله تعالى في ملكه، ومن أعان على خصومة بغير علم، كان في سخط الله تعالى حتى ينزع ". قال الألوسي تعقيبًا على الخبر:" واستثني من ذلك الحدود في القصاص، فالشفاعة في إسقاطه إلى الديَّة غير محرمة ".
وروى أبو داود عن أبي أمامة عن النبي ﷺ أنه قال:" مَنْ شَفَعَ لأحَدٍ شَفَاعَةً، فأهدى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا، فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أتى بَاباً عَظِيماً مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا ".
وروت عائشة- رضي الله عنها- في الحديث الصحيح:" أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ وَأََيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ".
فإذا كانت الشفاعة في حق، كان لصاحبها من أجرها، الذي يستحقه المُشفَّع أجرٌ حسنٌ. وهذا ما عَبَّر عنه تعالى بلفظ ( النصيب )، ومعناه في اللغة: الحظ الجيد المعيَّن من الشيء. تقول: هذا نصيبي. أي: حظي. قال تعالى:
" لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً "( النساء: ٧ ).
ثم قال:" لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ "( النساء: ١١ )، فدل على أن النصيب هو الحظ المعين، وأن هذا النصيب تابع للتركة في الزيادة، والنقصان. ونحو ذلك قول إبليس اللعين:" لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً "( النساء: ١١٨ )
واشتقاقه من النَّصْب، بإسكان الصاد، وهو إقامة الشيء في استواء، وإهْداف، ووضعُه موضعًا ناتئًا؛ كنصْب الرمح، والحجر في الأرض. والنصْبُ، والنصيبُ حجر كان ينصَبفي الأرض، فيعبَده العرب في الجاهلية.
وإذا كانت الشفاعة في باطل، كان لصاحبها من أجرها، الذي يستحقه المُشفَّع أجرٌ رديء. وهذا ما عَبَّر عنه تعالى بلفظ ( الكفل )، وهو من الأجر والإثْم: الضِّعْفُ، في أصح الأقوال. وأصله مركَب يُهَيَّأ على ظهر البعير، أو كساء يدار حول سنامه، وأكثر ما يستعمل في الشرِّ. ومنه ما جاء في الصحيحين من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ".. وقد يستعمل في الخير، ومنه قول الله تعالى:
" يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ "( الحديد: ٢٨ )
ولهذا كانت عقوبة الشفاعة السيئة في الإثم، والمؤدية إلى إسقاط الحق عظيمة عند الله تعالى تتناسب مع المعنى، الذي يؤديه لفظ الكفل، وليس كذلك السيئة، التي تجزى بمثلها. وكذلك كان ثواب الشفاعة الحسنة المؤدية إلى إحقاق الحق يتناسب مع المعنى، الذي يؤديه لفظ النصيب. فإذا عرفت ذلك، تبين لك السِّرُّ في اختيار ( النصيب ) للشفاعة الحسنة، و( الكفل ) للشفاعة السيئة ترغيبًا في الأولى، وتنفيرًا من الثانية.
ومما ينبغي أن يعلَم أيضًا أن الحديث عن الشفاعة بنوعيها يخص قومًا بعينهم، وأن أصحاب الشفاعة السيئة أكثر من أصحاب الشفاعة الحسنة، وأن وجودهم في المجتمع من أخطر الآفات، التي تهدد سلامته؛ ولهذا كانت عقوبتهم مضاعفة. أما الحديث عن فعل الحسنة، وفعل السيئة فهو حديث عام يعم أفراد المجتمع كلهم. ومن لطف الله تعالى بعباده أن جعل جزاء السيئة سيئة مثلها، ومن منِّه وكرمه سبحانه أن جعل جزاء الحسنة بعشرة أمثالها، ويزيد من فضله لمن يشاء. ومن هنا لا يجوز قياس الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة على فعل الحسنة وفعل السيئة.
وشيء آخر ينبغي أن يعلم، وهو أنه لما كان الجزاء بالنصيب، والكفل من الأمور، التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله:" وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً "
فبين سبحانه أنه كان وما زال ولا يزال شاهدًا وحفيظًا وحسيبًا على هذه الأعمال، ومجازيًا على كل عمل بما يناسبه، وقادرًا على إيصال النصيب والكفل من الجزاء إلى الشافع مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه كاملاً، لا ينتقص بسبب ما يصل إلى الشافع شيء من جزاء المشفوع.


الصفحة التالية
Icon