وكلمة حق لا بد أن تسجل في حقهم.. لم يدعوا القدرة على ذلك أبدا.. بل كانوا يقولون: ما هذا بكلام بشر
وعندما تجرأ مسيلمة الكذاب على التأليف
لم يتمسكوا بما قال بل لم يعيروه أدنى اهتمام، لأنهم يعلمون أنه ليس بشيء ولم يكونوا في هذا الأمر من المكابرين
من ذلك الإعجاز القرآني الدقة في اختيار المفردات، فكل كلمة تأتي في مكانها المناسب لها، فلو غير موضعها بتقديم أو تأخير أوجمع أو تثنية أو إفراد لتأثر المعنى ولم يؤد ما أريد منه، وكذلك لو جيء مكانه بكلمة خرى ترادفه لم تقم بالمطلوب أبدا
سنرى اليوم جملة مؤلفة من كلمتين إنها ( الحمد لله ) في سورة االفاتحة، هل كان من الممكن استعمال كلمات أخرى أو التغيير في وضعها ؟
في الظاهر.. نعم.. هناك كلمات و أساليب تحمل المعنى نفسه، ولكن هل تفي بالمراد ؟
كان بالإمكان قول ( المدح لله أو الشكر لله ) مثلا
ولكن ماذا عن المعنى العام ؟
١ـ (المدح لله)
ـ المدح هو الثناء وذكر المحاسن من الصفات والأعمال
أما الحمد فهو الثناء وذكر المحاسن مع التعظيم والمحبة. أيهما أقوى إذن ؟
ـ المدح قد يكون للحي ولغير الحي، و للعاقل وغير العاقل، فقد يتوجه للجماد أو الحيوان كالذهب والديك
أما الحمد فيخلص للحي العاقل
ـ المدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده، فقد يمدح من لم يفعل شيئا، ولم يتصف بحسن
أما الحمد فلا يكون إلا بعد الإحسان، فيحمد من قدم جميل الأعمال أو اتصف بجميل الصفات
يظهر لنا مما تقدم أننا عندما نقول ( الحمد لله ) فإننا نحمد الله الحي القائم الذي اتصف بصفات تستحق الحمد، ونعترف له بالتفضل والتكرم
فقدأسبغ علينامن إحسانه ظاهرا وباطنا ما لا يعد ولا يحصى مع إظهار تعظيمنا وإجلالنا له وتأكيد توجه محبتنا إليه
٢ـ (الشكر لله)
ـ يكون الشكر على ما وصل للشخص من النعم، أما الحمد فعلى ما وصل إليه وإلى غيره
ـ الشكر يختص بالنعم ولا يوجه للصفات، فنحن لا نشكر فلانا لأنه يتصف بصفة العلم أو الرحمة أو غيرها من الصفات الذاتية له،
أما الحمد فيكون ثناء على النعم وعلى الصفات الذاتية وإن لم يتعلق شيء منها بنا
فالشكر إذن أضيق نطاقا، إذ يختص بالنعم الواصلة إلى الشخص الذي يشكر فحسب
مما تقدم يتضح لنا أن المدح أعم ممن الحمد، وأن الحمد أعم من الشكر
وفي الأول تعميم لا يناسب المقام، وفي الأخير تخصيص غير مناسب أيضا
وهل يمكن مثلا استعمال واحدة من هذه العبارات؟
٣ ـ أحمد الله أو نحمد الله أو احمدوا الله ***
فيقال في الرد : إن هذه العبارات إن استعملت لتأثر المعنى المقصود، وقلت القوة المراد له الظهور بها، وفيما يلي تفصيل ذلك عن الجمل المذكورة قبل قليل
ــ هي جمل فعلية، الأولى يتحدث بها الشخص الواحد، والثانية تقولها جماعة من اثنين فأكثر، والثالثة أمر بإتيان فعل الحمد
والجملة الفعلية تدل على الحدوث وتجدد الفعل
أما (الحمد لله ) فجملة اسمية والجمل الاسمية تدل على الدوام والثبوت
لذا فمن القواعد المعروفة في اللغة أن الجملة الاسمية أقوى من الجملة الفعلية لأن الأولى تدل على الثبوت، وأيضا لأمور أخرى سنتعرف عليها فيما يلي
ــ الجملة الفعلية تختص بفاعل معين، فالفاعل في الجمل المذكورة أعلاه هو المتكلم المفرد في الأولى، ولكن ماذا عن غيره من الناس ؟
وفي الجملة الثانية جماعة المتكلمين والسؤال لازال قائما ماذا عن غيرهم ؟
وفي الثالثة الجماعة التي تؤمر بالحمد وأيضا تظل قاصرة
أما الجملة الاسمية فتفيد الحمد على الإطلاق من المتكلم وغيره دون تحديد فاعل معين، ولعلنا نستشهد على ذلك بقوله عز من قائل سبحانه ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم )
فبالإطلاق الوارد في الجملة الاسمية يحدث الشمول الذي لا يشمل البشر فقط بل يتجاوزهم إلى كل ما في الكون
ــ والجملة الفعلية ترتبط بزمن معين مما يعني أن الحمد لا يحدث في غير هذا الزمن الذي يتم فيه الحمد
وزمن الإنسان زمن محدد معين، يرتبط أو يساوي عمره على أقصى تقدير، فلا يتجاوزه إلى ما بعده ولا يبدأ قبله، فيكون الحمد أقل مما ينبغي بكثير
أما في الجملة الاسمية فالحمد مطلق، مستمد غير منقطع، مناسب بلا نقصان
ــ كما أن الجملة الفعلية لا تفيد أن المفعول مستحق للفعل، فقد نشكر من لا يستحق الشكر، وقد نهجو من لا يستحق الهجو
أما الجملة الاسمية فتفيد استحقاقه للحمد تأكيدا
والجملة الفعلية لا تعني أنه مستحق للحمد لذاته
بينما تفيد الجملة الاسمية أن الحمد والثناء حق لله تعالى، وملك له سبحانه، فهو ثابت له، وهو يستحقه لذاته ولصفاته ولما أنعم من آلائه
ــ وإن كان الفعل للأمر( احمد أو احمدوا ) فإن هذا أيضا لا يؤدي المعنى المطلوب، لما هو واضح من أن المأمور قد يفعل ما أمر به دون اقتناع، وإنما خوفا من الآمر أو رغبة في شيء ولأن المأمور به لا يكون مستحقا للفعل دوما