فقال في الآيتين: "وأتاهُمُ العَذابُ" في حين قال: "وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ. يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" العنكبوت: ٥٣ ـ ٥٤ ـ٥٥
فقال: "فَجاءَهُمُ العَذابُ" وذلك أن الآيتين الأوليين في عذاب الدنيا بدليل قوله في آية النحل: "ثُمّ يَوْممَ القِيامَةِ يُخزيهِم.." وقوله في آية الزمر: " فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" في حين أن آية العنكبوت في عذاب الآخرة، وحتى لو كانت في عذاب الدنيا فإن ما ذُكر فيها من العذاب أشق وأشد مما في الآيتين الأخريين بدليل قوله: "وإنَّ جَهَنّم لَمُحيطَةٌ بالكافِرينَ" وقوله: "يَوْمَ يَغشاهُمُ العَذابُ مِنْ فَوْقِهِم ومِنْ تَحْتِ أرْجُلِهم.." فجاء لما هو أشق وأشد بالفعل (جاء) ولما هو أيسر بـ (أتى).
وقد تقول: ولكنه قال: "ولَيَأتِيَنّهُم بَغْتةً" فاستعمل مضارع (أتى).
والجواب: أن القرآن لم يستعمل مضارعا للفعل (جاء).. ولذلك كل ما كان من هذا المعنى مضارعا، استعمل له مضارع (أتى) فلا يدخل المضارع في الموازنة، وسيأتي بيان ذلك.
ومن ذلك قوله تعالى: "أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" التوبة: ٧٠ ـ ٧١
فقال: " أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ" وهو الموطن الوحيد الذي جاء فيه نحو هذا التعبير في القرآن الكريم في حين قال في المواطن الأخرى كلها: "جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ"
ولو نظرت في هذه التعبيرات، ودققت فيها لوجدت أن كل التعبيرات التي جاءت بالفعل (جاء) أشق وأصعب مما جاء بـ (أتى)، وإليك بيان ذلك.
قال تعالى: " تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ. وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ. ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ" الأعراف: ١٠١ ـ ١٠٢ ـ ١٠٣
فانظر كيف قال في آية التوبة: "أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ." ولم يذكر أنهم كفروا أو عوقبوا، في حين قال في آيات الأعراف:" فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ "فذكر عدم إيمانهم، وأنهم طُبع على قلوبهم: " كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ"، وذكر أنه وجد أكثرهم فاسقين، وأنه لم يجد لأكثرهم عهدا، وذكر بعد ذلك ظلم فرعون وقومه لموسى وتكذيبهم بآيات الله وعاقبتهم.
فانظر موقف الأمم من الرسل في الحالتين وانظر استعمال كل من الفعلين جاء وأتى، يتبين لك الفرق واضحا بينهما.
ومنه قوله تعالى: " وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ١٣" يونس
فقال: "وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالبَيّنات" وذلك أنه ذكر إهلاك القرون لظلمهم وذكر تكذيبهم وعدم إيمانهم وذكر جزاء المجرمين.


الصفحة التالية
Icon