٣ـ (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْعَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [النحل: ١٦/٣٦].
٤ـ (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْكَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [الزمر: ٣٩/٧١].
٥ـ (وَكَذَلِكَ حَقَّتْكَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) [غافر: ٤٠/٦].
دائماً استخدمت كلمة (حَقَّتْ) في القرآن للتعبير عن حقيقة واحدة وهي أن الذين فسقوا وكفروا... لا يؤمنون... ضالون كافرون أصحاب النار. هذه الوحدة اللغوية في كامل القرآن لتدلُّ على أن منزل القرآن واحد لا شريك له. وهذا التناسق البياني هو دليل على أن القرآن كتاب لا يمكن تقليده أو الإتيان ولو بجزء أو سورة منه.
وردت كلمة (حقَّت) في ٥ آيات تدرجت كما يلي:
١ـ في الآية الأولى الحديث عن (الذين فسقوا) فهؤلاء (حقّت عليهم كلمة ربك)، وكما نعلم أول خطوة على طريق جهنم تبدأ بالخروج (الفسق) عن أمر الله تعالى.
٢ـ ثم في الآية الثانية جاء الحديث عن الذين (لا يؤمنون) وهذه هي المرحلة الثانية بعد الفسق ـ عدم الإيمان.
٣ـ في الآية الثالثة تحدث الله عن أؤلئك الذين (حقّ عليهم الضلالة)، إذن عدم الإيمان يؤدي إلى الضلال.
٤ـ في الآية الرابعة كان الحديث عن (الكافرين) فالضلال يؤدي إلى الكفر والإشراك بالله تعالى لذلك جاءت العبارة: (حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ).
٥ـ وأخيراً ختم الله هذه الآيات الخمسة بقوله: (أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) وهذه هي النتيجة المنطقية لكل من يفسُق... لا يؤمن... يضلّ.. يكفر... فمصيره إلى النار فهي تكفيه.
وتأمل أخي الحبيب هذا التدرج اللغوي لرحلة تنتهي بالنار والعياذ بالله تعالى:
فسقوا................ بداية الرحلة هي الفسق عن أمر الله تعالى.
لا يؤمنون........... بعد الفسق يأتي عدم الإيمان بالله تعالى.
الضلالة............ ثم يأتي الضلال والضياع.
كَلِمَةُ الْعَذَابِ........ وتبدأ رحلة العذاب.
أَصْحَابُ النَّارِ....... والنتيجة المؤلمة لهذه المراحل هي النار!
ولكن يبقى التساؤل: ما هي كلمة الله التي حقَّت على هؤلاء الكافرين؟ ألا يستطيع الله تعالى أن يهديَ الناس جميعاً؟ إنني أتصور أن الضلال والهدى... الكفر والإيمان.. الجنة والنار... كل هذه المفاهيم وغيرها لها نظام محسوب بدقة، فالله تعالى يعلم ما يصنع وهو يسيِّر الكون بما فيه، فهل يعجز عن هداية مخلوق؟
ولكن حكمة الله ومشيئته وقضاءه أعلى من مستوى تفكيرنا... ولكن يمكنني أن أقول إن النظام الكوني والبشري ونظام الخلق والنظام القرآني وغيرها لا يمكن أن تكون إلا بهذا الشكل الذي نراه، وغير هذه الصيغة لنظام الخلق ستؤدي إلى خلل في الكون.
هكذا مشيئة الله...
قبل أن يخلق الله الكون اختار الصيغة الأنسب للضلال والهدى، واقتضت مشيئة الله أن ينقسم البشر بين مؤمن وكافر، لو شاء لهدى الناس جميعاً، ولو شاء لعذبهم جميعاً... إنه يفعل ما يريد هو وليس نحن... لنتخيَّل حكمة الله في خلقه نستعرض ٣ آيات من القرآن حيث تكررت كلمة (نَشَأْ) لنرى التدرج البلاغي والرقمي لتكرار هذه الكلمة عبر سور القرآن:
١ـ (إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) [الشعراء: ٢٦/٤].
٢ ـ (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) [سبأ: ٣٤/٩].
٣ ـ (وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ) [يس: ٣٦/٤٣].
نظام الكلمات لغوياً
كلمة (نَشَأْ) هي كلمة خاصة بالله تعالى، لم ترد إلا وقبلها (إنْ) وبعدها كلمة تخصُّ الله وقدرته ومشيئته ليبيِّن لنا الله تعالى أن المشيئة كلها لله وحده، وليس لنا نحن البشر من الأمر شيء.
١ـ بدأ الله تعالى الأولى بالحديث عن الهدى فهو قادر على أن ينزل على هؤلاء المكذبين آية (معجزة) من السماء فيجبرهم على الخضوع والإيمان قسراً، ولكن عدالة الله تعالى اقتضت أن يعطيَهم حرية الاختيار لكي لا يظلم أحداً يوم القيامة.
٢ـ ثم أتت الآية الثانية بالتهديد بأن الله قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يسقط عليهم قطعاً ملتهبة من السماء ولكن رحمتُه تقتضي إمهالهم ليوم لا ريب فيه حيث لا ينفعهم الندم.
٣ـ وخُتمت هذه الآيات الثلاث بأن الله لو شاء لأغرقهم فلا منقذَ لهم غير الله تعالى.
نرى التدرج عبر الآيات الثلاثة: