وهنا وجدنا أن العناصر الخمسة التي تحدثنا عنها لم تكتمل، ذلك أن الرواية ستعود للتفرع مرة أخرى!!. ﴿وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم...﴾(الآية: ٢٥)...
بل إن النص الكريم ينحو منحى مدهشاً وذلك عندما يقوم بإيراد تجربة أخرى ضمن تجربة لم ينتهِ الحديث عنها بعد!! ﴿فآمن له لوط..﴾ ونجد هنا نموذجا من النماذج التركيبية الفريدة، فقد أُشرك لوطٌ وإبراهيم في حبكة قصصية واحدة، ذلك أن زمانهما واحد، ومكانيهما متقاربان!...
ويستمر الاستطراد في رسم الخيوط الثانوية للرواية وذلك من خلال رسم الملامح الثانوية([١]) في حياة الرسل أنفسهم من حيث هم بشر يتزوجون، ويتناسلون، ﴿ووهبنا له إسحقَ ويعقوب..﴾(٢٧)، ﴿ولوطاً إذ قالَ لقومِهِ إنكم لتأتونَ الفاحشةَ...﴾(٢٨).... إلى أن تلتقي الرواية المزدوجة لإبراهيم ولوط بنهايتها الطبيعية والحتمية: ﴿فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذابِ الله إن كنتَ من الصادقين، قال ربِّ انصرني على القوم المفسدين...﴾(٣٠) ﴿ولما جاءت رسُلُنا إبراهيمَ بالبشرى قالوا إنّا مهلكو أهلِ هذه القرية...﴾(٣١)... ﴿إنا مُنزلون على أهلِ هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون﴾(٣٤)، ﴿ولقد تركنا منها آيةً بينةً لقومٍ يعقلون﴾... وباستقرار آية العقاب في ديار الهالكين تكون العناصر الخمسة للرواية قد اكتملت، عندما ترك الله عز وجل الآيات لقوم يعقلون!!...
وبعد كل هذا الاستطراد في رسم ملامح قصة إبراهيم ولوط مع قومهما، يكون القرآن الكريم قد أكمل ثلاث حلقات من السلسلة الرسالية (نوح، وإبراهيم، ولوط)... لينتقل النص، بعد ذلك، إلى حلقة جديدة هي قصة أهل مدين ونبيهم شعيب... وفي هذا يقول عز من قائل: ﴿وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعيباً...﴾(الآية: ٣٦)... ﴿فكذّبوه فأخذتهمُ الرجفةُ فأصبحوا في دارهم جاثمين﴾(الآية: ٣٧)...
ولدهشتنا فإن قصة شعيب مع قومه تنتهي بسرعة، حتى دون أن تكتمل عناصرها الخمسة، بل يُعطف عليها (وبكلمات معدودة) قصة عاد وثمود، والتي تأتي، هي كذلك، في منتهى الاختصار، لنفاجأ بالعودة إلى عنصر رئيس من عناصر كل رواية ألا وهو النهاية الحتمية، تلك النهاية التي تنطبق هنا على الحلقتين معا ﴿وعاداً وثموداً وقد تبين لكم من مساكنهم...﴾(٣٨)... ولعل الجمع بين الحلقتين في رواية واحدة قد جاء نتيجة لاشتراكهما، هذه المرة، في نوع العقاب الذي أوقعه الله بهما!!...
ومشهد غريب هو ذلك الذي تنتهي به الآية السابقة (٣٨)، ﴿وعاداً وثموداً وقد تبين لكم من مساكنهم وزَيَنَ لهم الشيطانُ أعمالَهم فصدَّهم عن السبيل وكانوا مستبصرين﴾(٣٨) فبشكل خاطف وجدنا الآيات تنعطف انعطافا حاداً لتتحدث عن الشيطان وزينته التي يوقع الناس من خلالها في شرّ أعمالهم، دون أن يكون السياق العام للآيات يوحي أو ينبئ بهذه الانعطافة، لتنتهي الآية بشكل أكثر غرابة ﴿فصدّهم عن السبيلِ وكانوا مُستبصرين﴾(٣٨)...
وكأن الآيات تسخر من أولئك الذين وقع العقاب عليهم، حيث كانوا منقادين إلى أقدارهم بعيون مفتوحة، لكنهم لم يكونوا قادرين على رؤية الأخطار التي كانت محدقة بهم... إذ لم يكونوا مبصرين!... بل كانوا مستبصرين، أي مجردّ مدّعي بصيرة!!...
ولنلاحظ أنه لم تكن هناك حاجة لإبراز العنصر الخامس من عناصر هذه الرواية المشوقة (الأمر بالنظر في الآيات التي أبقاها الله في بيوت الظالمين) وذلك لسبب غاية في البساطة!، إذ لم تعد تلك الآيات والعلامات قادرة على الثبات والبقاء في وجه عوامل الزمن، وعوامل التعرية الجيولوجية، وكل العوامل الأخرى التي يكسبها الإنسان بيديه!... فحيث يتطاول الزمن فتنهد له الجبال هدا، وحيث تنكشف الأرض كل يوم عن وجه جديد، وحيث يسلب الإنسان أخاه الإنسان قدرته على التحرك بحرية لينظر في الآيات... ساعتها يكون الإنسان قد سلب، عمليا، قدرته على النظر في الآيات المنتشرة في أرجاء الأرض... مما يترتب عليه سؤال في غاية الأهمية: هل تسقط، والحالة هذه، حجة الله على الناس، وهو الحق، العدل، الذي يقول في محكم التنزيل: ﴿وما كُنا مُعذبين حتى نبعثَ رسولا﴾؟!!...
من هنا فإن تأملا للنموذج الأخير الذي عرضناه (مدين، وعاد، وثمود) يكاد يكشف عن قرب طرح المفاجأة التي تكاد تلجم الأفواه، بل تكاد تذهب بالعقول؟!! لكن وقبل ذلك كله تأتي الآيات بحلقة أخيرة مختصرة (تجربة نبي الله موسى عليه السلام مع كل من قارون وفرعون وهامان)، لتأتي الآيات بعد ذلك بإجمال لأهم وأبرز ما تم عرضه في الحلقات السابقة؛ كلون من ألوان العرض الأخير قبل طرح المفاجأة... ﴿وقارونَ وفرعونَ وهامان، ولقد جاءهم موسى بالبيِّناتِ فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين﴾...
ونلاحظ هنا أن الآيات الكريمة لم تجد حاجةً لاستكمال العناصر الخمسة؛ بل اكتفت بإيراد جزءٍ منها، ذلك أنه لا فائدة من طرح عناصر لن يكون لها فائدة عملية في حياة الناس، فالآيات قد ذهبت، والشواهد قد اندثرت، والدلائل كلها انقرضت، فماذا يكون حال الناس؟


الصفحة التالية
Icon