وهكذا يتضح من خلال المشاهد الثلاثة التي أتينا عليها، قوة التصوير القرآني، ومدى تأثيره في النفس الإنسانية في إيصال المعاني التي يهدف إليها، ما لا قِبل لبشرٍ بالإتيان بمثله، فـ ﴿ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ﴾ (الفرقان: ١}.
=================
الجمع بين الفاعل الظاهر والضمير في القرآن
الاثنين : ٢٥/٠٦/٢٠٠٧
(الشبكة الإسلامية)
جاء في سورة الأنبياء قوله تعالى: ﴿ وأسروا النجوى الذين ظلموا ﴾ (الأنبياء: ٣) وقد استشكل بعض الناس ذكر واو الجماعة في الآية، مع وجود الفاعل الظاهر، وهو قوله تعالى: ﴿ الذين ظلموا ﴾، وادعوا أن الذي تقتضيه قواعد اللغة، أن يقول: ( وأسر النجوى الذين ظلموا ) بغير واو الجماعة، ويكون التقدير في الآية: وأسر الذين ظلموا النجوى، فيكون في الآية تقديم وتأخير. فما وجه الإتيان بضمير الفاعل ( واو الجماعة )، مع الفاعل الظاهر ﴿ الذين ظلموا ﴾ ؟.
لقد أجاب العلماء عن الآية بوجوه عديدة، تبين أن الآية الكريمة لا إشكال فيها أبدًا، وأنها جاءت على حسب لسان العرب؛ وإنما الإشكال الحقيقي في سوء الفهم للغة العرب، وليس في مجيء الآية على الشكل الذي جاءت عليه.
ولا بد من التذكير بداية، أن لغات العرب لغات متعددة، فهناك لغة قريش، وهناك لغة طيئ، وهناك لغة تميم، وهناك لغة هذيل، وهناك لغة كنانة، وغير ذلك من لغات العرب.
والقرآن الكريم وإن كان قد نزل بحسب لغة قريش في معظم ألفاظه، إلا أنه قد جاء في بعض ألفاظه على غير لغة قريش؛ فلفظ ﴿ تخوف ﴾ في قوله تعالى: ﴿ أو يأخذهم على تخوف ﴾ (النحل: ٤٧) جاء على لغة أزد شنوءة، ويعني: التنقص؛ وحذف ياء المتكلم والتعويض عنها كسرة في قوله تعالى: ﴿ وإياي فارهبون ﴾ (البقرة: ٤٠) وقوله: ﴿ فإياي فاعبدون ﴾ (العنكبوت: ٥٦) ونحو ذلك من الآيات، إنما جاء على لغة هذيل. وهذا أمر معلوم لمن كان على علم بلغات العرب، ومعروف لمن كان على معرفة بما نزل عليه القرآن من لغات العرب غير لغة قريش
فإذا رجعنا إلى القرآن، وجدناه قد جاء في موضع آخر على أسلوب الآية التي معنا، وذلك في قوله تعالى: ﴿ وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم ﴾ (المائدة: ٧١)، فقوله تعالى: ﴿ ثم عموا وصموا كثير منهم ﴾ جاء على غير لغة قريش، فبحسب لغة قريش كان ينبغي أن يأتي الفعلان: ﴿ عموا وصموا ﴾ من غير واو الجماعة؛ لوجود الفاعل الظاهر، وهو قوله: ﴿ كثير منهم ﴾ لكن جاءت الآية على وفق لغة أخرى من لغات العرب.
وإذا رجعنا إلى أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقفنا على العديد من الشواهد التي جاءت بحسب الأسلوب الذي وردت عليه الآية؛ فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار ) متفق عليه، وقد ورد هذا الحديث بهذا اللفظ في "الصحيحين" مما يدل على صحة هذا الاستعمال. قال القرطبي :( الواو ) في قوله: ( يتعاقبون ) علامة الفاعل المذكر الجمع، على لغه بلحارث... قال: وهي لغة فاشية، ومشهورة، ولها وجه من القياس واضح.
ومن ذلك ما رواه مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الحياء خير كله، فقال بشير بن كعب : إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقارًا لله ومنه ضعف، قال: فغضب عمران حتى احمرتا عيناه..) الحديث. والشاهد فيه قول الراوي: ( حتى احمرتا عيناه ) والشائع في اللغة أن يقال: ( حتى احمرت عيناه ) لكن جاء بهذا الأسلوب على لغة من يجيز ذلك من العرب. قال النووي معلقًا على هذا الاستعمال: وهو صحيح جار على لغة ( أكلوني البراغيث ) وهي لغة تجمع بين الفاعل المضمر والفاعل الظاهر.
ومن ذلك أيضًا، حديث عائشة وهو في صحيح مسلم، قالت: ( ذكرن أزواج النبي ﷺ كنيسة رأينها بأرض الحبشة...) والشاهد فيه، قولها: ( ذكرن أزواج ) وكان الشائع في اللغة أن تقول: ( ذكر أزواج...) بغير نون النسوة، وهي نون الفاعل هنا، لكن جاءت بها على لغة من يجيز ذلك من العرب. قال النووي مبينًا صحة هذا الاستعمال: وهو جائز على تلك اللغة القليلة.
وفي مسند أحمد عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ( اجتمعن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم...) والشاهد فيه قول عائشة :( اجتمعن أزواج...) فجاءت بضمير النسوة الفاعل ( اجتمعن ) مع وجود الفاعل الظاهر ( أزواج )، وكان الشائع أن تقول: ( اجتمع أزواج...) بغير نون الفاعل. قال القرطبي معلقًا على قول عائشة : زيادة النون على لغة ( أكلوني البراغيث )؛ وقد أثبتها جماعة من أئمة العربية.
هذا بعض مما جاء في الأحاديث حول هذا الاستعمال؛ أما ما جاء في أشعار العرب من ذلك، فمنه قول أحيحة بن الجلاح :
يلومونني في اشتراء النخيل قومي وكلهم ألوم
فجاء بواو الضمير، الدالة على الجماعة مع الفعل في قوله: ( يلومونني )، وجاء في الوقت نفسه بالفاعل الظاهر في قوله: ( قومي ).
وقال أبو تمام :
بك نال النضال دون المساعي فاهتدين النبال للأغراض


الصفحة التالية
Icon