و في هذا يقول الرافعي رحمه الله :" و ذلك أمر متحقق بعد في القرآن الكريم : يقرأ الإنسان طائفة من آياته، فلا يلبث أن يعرف لها صفة من الحس ترافد ما بعدها و تمده، و فلا تزال هذه الصفة في لسانه، و لو استوعب القرآن كله، حتى لا يرى آية قد أدخلت الضيم على أختها، أو نكرت منها، أو أبرزتها عن ظل هي فيه، أو دفعنها عن ماء هي إليه : و لا يرى ذلك إلا سواء و غاية في الروح و النظم و الصفة الحسية، و لا يغتمض في هذا إلا كاذب على دخله و نية، و لا يهجن منه إلا أحمق على جهل و غرارة، و لا يمتري فيه إلا عامي أو أعجمي و كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون " [إعجاز القرآن للرافعي : ص ٢٧٥].
الخاصة الثانية : هي أن التعبير القرآني يظل جارياً على نسق واحد من السمو في جمال اللفظ، و عمق المعنى و دقة الصياغة و روعة التعبير، رغم تنقله بين موضوعات مختلفة من التشريع و القصص و المواعظ و الحجاج والوعود والوعيد و تلك حقيقة شاقة، بل لقد ظلت مستحيلة على الزمن لدى فحول علماء العربية و البيان.
و بيان ذلك ان المعنى الذي يراد عرضه، كلما أكثر عموما و أغنى أمثلة و خصائص كان التعبير عنه أيسر، و كانت الألفاظ أليه أسرع، وكلما ضاق المعنى و تحدد، و دق و تعمق كان التعبير عنه أشق، و كانت الألفاظ من حوله أقل.
و لذا كان أكثر الميادين الفكرية التي يتسابق فيها أرباب الفصاحة و البيان هي ميادين الفخر و الحماسة و الموعظة و المدح و الهجاء، و كانت أقل هذه الميادين اهتماماً منهم، و حركة بهم ميادين الفلسفة و التشريع و مختلف العلوم، وذلك هو السر في أنه قلما تجد الشعر يقتحم شيئاً من هذه الميادين الخالية الأخرى.
و مهما رأيت بليغاً كامل البلاغة و البيان، فإنه لا يمكن أن يتصرف بين مختلف الموضوعات و المعاني على مستوى واحد من البيان الرفيع الذي يملكه، بل يختلف كلامه حسب اختلاف الموضوعات التي يطرقها، فربما جاء بالغاية ووقف دونها، غير أنك لا تجد هذا التفاوت في كتاب الله تعالى، فأنت تقرأ آيات منه في الوصف، ثم تنتقل إلى آيات أخرى في القصة، و تقرأ بعد ذلك مقطعاً في التشريع و أحكام الحلال و الحرام، فلا تجد الصياغة خلال ذلك إلا في أوج رفيع عجيب من الإشراق و البيان. و تنظر فتجد المعاني كلها لاحقة بها سامخة إليها. و دونك فأقرأ ما شئت من هذا الكتاب المبين متنقلا بين مختلف معانيه، و موضوعاته لتتأكد من صدق ما أقول، ولتلمس برهانه عن تجربة و نظر [عن من كتاب روائع القرآن : للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ].
و يقول في معرض حديثة عن " روح التركيب " في أسلوب القرآن : لا ترى غير صورة واحدة من الكمال، و إن اختلفت أجزاؤها في جهات التركيب و موضع التأليف و ألوان التصوير و أغراض الكلام " [إعجاز القرآن ص٢٧٤ و كتاب تاريخ الأدب العربي للرافعي ٢٤١].
و يقول في معرض حديثه عن " روح التركيب " في أسلوب القرآن :"و هذه الروح لم تعرف قط في كلا عربي غير القرآن، و بها انفرد نظمه، و خرج مما يطيقه الناس، و لولاها لم يكن بحيث هو، كأنما وضع جملة واحدة ليس بين أجزائها تفاوت أو تباين، إذ نراه ينظر في التركيب إلى نظم الكلمة، و تأليفها، ثم إلى تأليف هذا النظم، فمن هنا تعلق بعضه على بعض، و خرج في معنى تلك الروح صفة واحدة هي صفة إعجازه في جملة التركيب، و أن العبارات على جملة ما حصل به من جهات الخطاب : كالقصص و المواعظ و الحكم و التعليم، ضرب الأمثال إلى نحوها مما يقدر عليه.
و لولا تلك الروح لخرج أجزاء متفاوتة على مقدار ما بين هذه المعاني، و موقعها في النفوس، و على مقدار ما بين الالفاظ و الأساليب التي تؤديها حقيقة و مجازا، كما تعرف من كلام البلغاء، عند تباين الوجوه التي يتصرف فهيا، على أنهم قد رفهوا عن أنفسهم و كفوها أكبر المؤنة فلا يألون أن يتوخوا بكلامهم إلى أغراض و معان يعذب فيها الكلام و يتسق القول و تحسن الصنعة مما يكون أكبر حسنة في مادته اللغوية، و ذلك شائع مستفيض في مأثور الكلام إلي غيره، و افضوا بالكلام إلى المعنى ما يشبه في اثنين متقابلين من الناس منظر قفا إلى وجه
و على أننا لم نعرف بليغاً من البلغاء تعاطى الكلام في باب الشرع و تقرير النظر، و تبيين الأحكام و نصب الأدلة و أقام الأصول و الاحتجاج لها و الرد على خلافها إلا جاء بكلام نازل عن طبقة كلامه في غير هذه الأبواب، و أنت قد تصيب له في غيرها اللفظ الحر و الأسلوب الرائع و الصنعة المحكمة و البيان العجيب، والمعرض الحسن فإذا صرت إلى ضروب من تلك المعاني، وقعت ثمة على شيء كثير من اللفظ المستكره، والمعنى المستغلق، و السياق المضطرب و الأسلوب المتهافت و العبارة المبتذلة، و على النشاط متخاذلا، و العرى محلولة، والوثيقة واهنة " [كتاب إعجاز القرآن للرافعي ].
الخاصة الثالثة : أن معانيه مصاغة بحيث يصلح أن يخاطب بها الناس كلهم على اختلاف مداركهم و ثقافتهم و على تباعد أزمنتهم و بلدانهم، و مع تطور علومهم و اكتشافاتهم.


الصفحة التالية
Icon