خذ آية من كتاب الله مما يتعلق بمعنى تتفاوت في مدى فهمه العقول، ثم اقرأها على مسامع خليط من الناس يتفاوتون في المدارك، والثقافة، فستجد ان الآية تعطي كلا منهم معناها بقدر ما يفهم، و أن كلا منهم يستفيد منها معنى وراء الذي انتهي عنده علمه.
و في القرآن الكثير من هذا و ذاك فلنعرض أمثلة منه :
من القبيل الأول قوله تعالى :" تبارك الذي جعل في السماء روجاً و جعل فيها سراجاً و قمراً منيراً " فهذه تصف كلا من الشمس و القمر بمعنيين لهما سطح قريب يفهمه الناس كلهم، و لها عمق يصل إليه المتأملون و العلماء، و لها جذور بعيدة يفهمها الباحثون و المتخصصون، والآية تحمل بصياغتها هذه الدرجات الثلاثة للمعنى، فتعطي طاقته و فهمه.
فالعامي من العرب يفهم منها ان كلا من الشمس و القمر يبعثان بالضياء إلى الأرض، وإنما غاير في التعبير عنه بالنسبة لكل منهما تنويعاً للفظ، و هو معنى صحيح تدل عليه الآية، و المتأمل من علماء العربية يدرك من وراء ذلك أن الآية تدل على أن الشمس تجمع إلى النور الحرارة فلذلك سماها سراجاً، والقمر يبعث بضياء لا حرارة فيه.
الخاصة الرابعة : و هي ظاهرة التكرار.
وفي القرآن من هذه الظاهرة نوعان :
أحدهم : تكرار بعض الألفاظ او الجمل.
و ثاينهما : تكرار بعض المعاني كالأقاصيص، والأخبار.
فالنوع الأول : يأتي على وجه التوكيد، ثم ينطوي بعد ذلك على نكت بلاغية، كالتهويل، والإنذار، التجسيم و التصوير و للتكرار أثر بالغ في تحقيق هذه الأغراض البلاغية في الكلام، و من أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى :" الحاقة ما الحاقة، و ما أدراك ما الحاقة، كذبت ثمود و عاد بالقارعة " و قوله تعالى :" سأصليه سقر، و ما أدراك ما سقر، لا تبقي و لا تذر " و قوله تعالى : أولئك الذين كفروا بربهم، و أولئك الأغلال في أعناقهم، وأولئك أصحاب النار " و قوله تعالى :" و ما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم، و ما أنت بمسمع من في القبور ".
و النوع الثاني : و هو تكرار بعض القصص و الأخبار يأتي لتحقيق غرضين هامين :
الأول : إنهاء حقائق و معاني الوعد و الوعيد إلى النفوس بالريقة التي تألفها، و هي تكرار هذه الحقائق في صور و أشكال مختلفة من التعبير و الأسلوب، ولقد أشار القرآن إلى هذا الغرض بقوله :" و لقد صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا" [سورة طه ١١٣]. الثاني : إخراج المعنى الواحد في قوالب مختلفة من الألفاظ و العبارة، و بأساليب مختلفة تفصيلاً و إجمالاً، الكلام في ذلك حتى يتجلى إعجازه، و يستبين قصور الطاقة البشرية عن تقليده أو اللحاق بشأوه، إذ من المعلوم أن هذا الكتاب إنما تنزل للإقناع العقلاء، من الناس بأنه ليس كلام بشر، و لإلزامهم بالشريعة التي فيه، فلابد فيه من الوسائل التي تفئ بتحقيق الوسيلة إلى كلا الأمرين.
و من هنا كان من المحال أن تعثر في القرآن كله على معنى يتكرر في أسلوب واحد من اللفظ، و يدور ضمن قالب واحد من التعبير، بل لابد أن تجده في كل مرة يلبس ثوباً جديداً من الأسلوب، و طريقة التصوير و العرض، بل لابد أن تجد التركيز في كل مرة منها على جانب معين من جوانب المعنى او القصة و لنضرب لك مثالاً على هذا الذي نقول : بقصة موسى عليه السلام إذ أنها أشد القصص في القرآن تكراراً، فهي من هذه الوجهة تعطى فكرة كاملة على هذا التكرار.
وردت هذه القصة في حوالي ثلاثين موضعاً، ولكنها في كل موضع تلبس أسلوباً جديداً و تخرج أخراجاً جديدا يناسب السياق الذي وردت فيه، و تهدف إلى هدف خاص لم يذكر في مكان آخر، حتى لكأننا أمام قصة جديدة لم نسمع بها من قبل.
الخاصة الخامسة :
و هي تداخل أبحاثه، و مواضيعه في معظم الأحيان فإن من يقرأ هذا الكتاب المبين لا يجد فيه ما يجده في عامة المؤلفات و الكتب الأخرى من التنسيق و التبويب حسب المواضيع، و تصنيف البحوث مستقلة عن بعضها، و إنما يجد عامة مواضيعه و أبحاثه لاحقة ببعضها دونما فاصل بينهما، وقد يجدها متداخل في بعضها في كثير من السور و الآيات.
و الحقيقة أن هذه الخاصة في القرآن الكريم، إنما هي مظهر من مظاهر تفرده، و استقلاله عن كل ما هو مألوف و معروف من طرائق البحث و التأليف.
المظهر الثاني :
المفردة القرآنية:
إذا تأملت في الكلمات التي تتألف منها الجمل القرآنية رأيتها تمتاز بميزات ثلاثة رئيسية هي :
١ ـ جمل وقعها في السمع.
٢ـ اتساقها الكامل مع المعنى.
٣ـ اتساع دلالتها لما لا تتسع له عادة دلالات الكلمات الأخرى من المعاني و المدلولات. د
و قد نجد في تعابير بعض الأدباء و البلغاء كالجاحظ و المتنبي كلمات تتصف ببعض هذه الميزات الثلاثة أما ان تجتمع كلها معا، و بصورة مطردة لا تتخلف أو تشذ فذلك مما لم يتوافر إلا في القرآن الكريم.
و إليك بعض الأمثلة القرآنية التي توضح هذه الظاهرة و تجليها :
أنظر إلى قوله تعالى في وصف كل من الليل و الصبح :" و الليل إذا عسعس و الصبح إذا تنفس " ألا تشم راحة المعنى واضحاً من كل هاتين الكلمتين : عسعس، و تنفس؟