و مكمن الإعجاز في ذلك، أن الألفاظ ليست إلا حروفاً جامدة ذات دلالة لغوية على ما أنيط بها من المعاني، فمن العسير جداً أن تصبح هذه الألفاظ وسيلة لصب المعاني الفكرية المجردة في قوالب من الشخوص و الأجرام و المحسوسات، تتحرك في داخل الخيال كأنها قصة تمر أحداثها على مسرح يفيض بالحياة و الحركة المشاهدة الملموسة. أستمع إلى القرآن الكريم و هو يصور لك قيام الكون على أساس من النظام الرتيب و التنسيق البديع الذي لا يتخلف، و لا يلحقه الفساد، فيقول :" إن ربكم الله خلق السموات و الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً، و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره إلا له الخلق و الأمر " [الأعراف ٥٤].
إنه يصور لك هذا المعنى في مظهر من الحركة المحسوسة الدائرة بين عينيك، و كأنها أمام آلات تتحرك بسرعة دائبة في نظام مستمر يعيها و تصورها الشعور و الخيال.
الباحثون في القرآن يجمعون على إعجازه
الجاحظ و رأيه في بلاغة القرآن :
الجاحظ هو مؤسس البيان العربي بلا منازع، هو أبو عثمان بن بحر بن محبوب الكتاني، المعروف بالجاحظ البصري ولد سنة ١٥٠ هـ و توفي سنة ٢٥٥هـ.
ففي رسالة له بعنوان حجج نبوية يقول :" إن محمد صلى الله عليه و سلم مخصوص بعلامة، لها في العقل موقع كموقع فلق البحر في العين.. ذلك قوله لقريش خاصة و للعرب عامة مع من فيها من الشعراء و الخطباء و البلغاء، والحكماء و أصحاب الرأي و المكيدة، والتجارب و النظر في العامة " إن عارضتموني بسورة واحدة فقد كذبت في دعواي، و صدقتكم في تكذيبي " ثم يقول " و لا يجوز أن يكون مثل العرب في كثير عددهم و اختلاف عللهم و كلامهم، وهو سيد علمهم، وقد فاض بيانهم، و جاشت به صدورهم، وغلتهم قوتهم عليه عند أنفسهم، حتى قالوا في الحيات، والعقارب و الذئاب و الكلاب، والخنافس، والحمير و الحمام و كل ما دب على الأرض و لاح لعين، وخطر على قلب و لهم أصناف النظم، و ضروب التأليف.. كالقصيد، والرجز، و المزدوج و المتجانس و الاستماع و المنثور و بعد فقد هاجوه من كل جانب، و هاجا أصحابه شعرائهم، و نازعوه خطباءهم و حاجوه في الموقف و خاصموه في الموسم، و باروه العداوة، وناصبوه الحرب، فقتل منهم و قتلوا منه.. و هم أثبت الناس حقداً، و أبعدهم مطلباً، و أذكرهم لخبر أو الشر، و أبقاهم له، و أهجاهم ثم لا يعارضه معارض، ولم يتكلف ذلك خطيب و شاعر.
ثم يقول : و محال في التعارف و مستنكر في التصادف أن يكون الكلام أقصر عندهم، و أيسر مئونة عليهم، وهو أبلغ في تكذيبه، و أنقض لقوله، أجدر أن يعرف ذلك أصحابه، فيجتمعوا على ترك استعماله و الاستغناء عنه، وهم يبذولون مهجهم و أموالهم و يخرجون من ديارهم في إطفاء أمرهم و توهين و لا يقولون، بل و لا يقول واحد من جماعتهم، لم تقتلوا أنفسكم وتستهلكوا أموالكم، تخرجون من دياركم و الحيلة في أمره ميسرة و المأخذ في أمره قريب ؟
ليؤلف واحد من شعرائكم و خطبائكم كلاماً في نظم كلامه، كأصغر سورة يحتكم بها، و كأصغر آية دعاكم إلى معارضتها، بل لو نسوا ما تركهم حتى يذكرهم، ولو تغافلوا ما ترك أن ينبههم، فدل ذلك العاقل على أن أمرهم في ذلك لا يخلو ا من أحد أمرين :
إما أن يكونوا عرفوا عجزهم، و أن مثل ذلك لا يتهيأ لهم، فرأوا أن الأعراض عن ذكره، والتغافل عنه في هذا الباب أمثل لهم في التدبير، و أجدر ألا ينكشف أمرهم للجاهل و الضعيف، و أجدر أن يجدوا إلى الدعوة سبيلاً، وإلى اختراع الأنباء سبباً.
و إلا أن يكون غير ذلك، و لا يجوز أن يطبقوا على ترك المعارضة و هم يقدرون عليها، لأنه لا يجوز على العدد الكثير من العقلاء و الدهاة و الحكماء مع اختلاف عللهم، و بعد همهم، و شدة عداوتهم، بذلك الكثير، و صون اليسير فكيف على العقلاء لأن تحبير الكلام أهون من القتال و من إجراء المال أ. هـ.
مسيحوا العصر الحديث يعترفون بعظمة القرآن
أعترف الدكتور ماردريس المستشرق الفرنسي بعظمة القرآن الكريم و ذلك إثر بعد أن كلفته وزارتا الخارجية و المعارف الفرنسية بترجمة ( ٦٢) سورة من السور الطوال التي لا تكرار فيها ففعل و قال في مقدمة ترجمته الصادرة ١٩٢٦م أما أسلوب القرآن فهو أسلوب الخالق جل و علا فإن الأسلوب الذي ينطوي على كنه الخالق الذي صدر عنه هذا الأسلوب لا يكون إلا إلهاً، والحق الواقع أن أكثر الكتاب شكاً و ارتيابا قد خضعوا لسلطان تأثيره.
و يورد الأستاذ محمد صادق الرافعي بعض تصريحات لمسيحيين عن بلاغة القرآن من هؤلاء أديب الملة المسيحية هو الشيخ إبراهيم اليازجي وهو أبلغ كاتب أخرجته المسيحية، وذلك في كتابه ( نجعة الرائد ) و كذلك أورد الدكتور حين حسن ضياء الدين تصريحاً لأحد المسيحين يتضمن إعجابه بالإعجاز البياني بالقرآن الكريم و هذا الأديب الشاعر هو الشاعر المعاصر ( نقولا حنا )
الإعجاز و البلاغة
لقد نشب صراع حاد و عنيف بين علماء البلاغة حول الصور والألوان البلاغية في القرآن الكريم، هل هي معجزة أو غير معجزة ؟