إنها صورة فنية رائعة أحكم القرآن الكريم صياغتها، و أجادت الريشة الإلهية رسمنها، تكشف في جلاء ووضوح عن حقيقة هذا الكذب الضال، إنه حقير قذر، لا يؤثر فيه النصح و الإرشاد و لا ينفع معه الوعظ و التذكير، قد ركب رأسه، ولج في ضلاله، واتخذ الشيطان إلها من دون الله ثم تأمل الكلمات التي نظمت منها صورة المشبه به لا تجد في مفردات اللغة ـ على كثرتها، من بقوم مقامها و يسد مسدها، ثم تأمل كلمة " الكلب " وحدها لا تجد كلمة في اللغة تصور هذا المعنى و تبرزه في صورة حية متحركة سواها، إذ كل مخلوق إنما يلهث من مرض أو عطش أو إعياء إلا الكلب فإنه يلهث في جميع أحواله في حال الدلال و في حالة الراحة، و في حالة الصحة و المرض وفي حالة الري و العطش.
قال تعالى :" و حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون "
شبه القرآن الكريم الحور العين باللؤلؤ المكنون في الصفاء و النقاء و الهدوء و الصيانة.
تأمل نظم هذه الصورة التشبيهية الإلهية أنه فوق طاقة البشر. ثم تأمل هذه الكلمة العجيبة " اللؤلؤ " هل في مقدورك أو في مقدور أي بليغ مهما أوتي من البراعة و البيان أن يأتي بكلمة أخرى تؤدي معناها، و تصور ما صورته ؟ ثم تأمل الدقة في صفة هذا اللؤلؤ بكونه مكنونا.
إن اللؤلؤ فيه الصفاء و الهدوء و النقاء، وهو أحجار كريمة من شأنها أن تصان و يحرص عليها.
تأمل الارتباط العجيب و الصلة الوثيقة بين الحور العين و اللؤلؤ المكنون، إنه الإعجاز يلبس ثوب التشبيه فيقف البلغاء أمامه ضعفاء قد استولت عليه الحيرة و سيطرت على عقولهم الدهشة و داعبت أنامل الإعجاب حبات قلوبهم. فخروا ساجدين لعظمته، و شهدوا بأنه البيان الإلهي الذي لا يقدر عليه بشر.
قال تعالى :" يوم يكون الناس كالفراش المبثوث، و تكون الجبال كالعهن المنفوش "
شبه القرآن الكريم الناس يوم القيامة بالفراش المبثوث في ضعفهم و ضالتهم و تهافتهم.
و شبه الجبال بالعهن " الصوف " المنفوض في هشاشتها و خفتها.
مشهدان رائعان رسمتهما الريشة الإلهية فأجادت و أعجزت، و سخرت و أدهشت.
تأمل هذه الكلمة " الفراش " إنها تصور لك بظلها و جرسها، و إيحائها الناس في هذا اليوم في منتهى الضعف و الضالة، وهم مستطارون مستخفون من هول هذا اليم.
و تأمل الدقة في وصف الفراش في وصف الفراش بكونه مبثوثاً أن هذا الوصف يصور لك كثرة الناس في هذا اليوم و تهافتهم. ثم حدثني بربك هل في مفردات اللغة كلمة تصور هذا المشهد سوى هذه الكلمة القرآنية ؟
و هل هناك أعجب من هذه الدقة في وصف الفراش بكونه مبثوثاً ؟
ثم دقق نظرك في كلمة " العهن " هل في قواميس اللغة العربية كلمة أقدر على تصوير هذا المشهد من هذه الكلمة ؟ إنها بجمالها وظلها و جرسها الساحر تصور لك الجبال الضخمة الثابتة بالصوف المنقوش الذي تتقاذفه الرياح الهوج. ثم تأمل بعقلك ر خيالك الدقة و الإحكام في وصف العهن بكونه منفوشاً إن هذا الوصف يصور لك الجبال الضخمة الثابتة في منتهى الهشاشة و الخفة.
إنه النظم القرآني يبهر العقول، و يطير بالألباب، و يذهب بسر البلاغة و سحر البيان.
من روائع الاستعارة في القرآن الكريم
قال تعالى :" و آية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون " سورة يس.
استعير في الآية الكريمة :" السلخ " و هو كشط الجلد عن الشاة و نحوها لإزالة ضوء النهار عن الكون قليلاً قليلاً، بجامع ما يترتب على كل منهما من ظهور شيء كان خافياً، فبكشط الجلد يظهر لحم الشاة، و بغروب الشمس تظهر الظلمة التي هي الأصل و النور طاريء عليها، يسترها بضوئه.
و هذا التعبير الفني يسميه علماء البلاغة " الاستعارة التصريحية التبعية ".
استعارة رائعة و جملية، إنها بنظمها الفريد و بإيحائها و ظلها و جرسها قد رسمت منظر بديعاً للضوء و هو ينحسر عن الكون قليلاً قليلاً و للظلام و هو يدب إليه في بطء.
إنها قد خلعت على الضوء و الظلام الحياة، حتى صارا كأنهما جيشان يقتتلان، قد أنهزم أحدهما فولى هارباً، و ترك مكانه للآخر.
تأمل اللفظة المستعارة و هي " نسلخ " إن هذه الكلمة هي التي قد استقلت بالتصوير و التعبير داخل نظم الآية المعجز فهل يصلح مكانها غيرها ؟
قال تعالى :" و الصبح إذا تنفس " استعير في الآية الكريمة خروج النفس شيئاً فشيئاً لخروج النور من المشرق عند انشقاق الفجر قليلاً قليلاً بمعنى النفس
ن تنفس بمعنى خرج النور من المشرق عند انشقاق الفجر.
استعارة قد بلغت من الحسن أقصاه، و تربعت على عرش الجمال بنظمها الفريد، إنها قد خلعت على الصبح الحياة حتى لقد صار كائنا حيا يتنفس، بل إنساناً ذا عواطف و خلجات نفسية، تشرق الحياة بإشراق من ثغره المنفرج عن ابتسامة وديعة، و هو يتنفس بهدوء، فتتنفس معه الحياة، و يدب النشاط في الأحياء على وجه الأرض و السماء، أرأيت أعجب من هذا التصوير، و لا أمتع من هذا التعبير؟